الأزمة الأوكرانية والمأزق الصيني
من غير المتوقع أن تضع الحرب الروسية الأوكرانية أوزارها قريباً، في غياب أيّ أفقٍ لحلٍّ سياسي يُرضي الطرفين. وفي غضون ذلك، تطمح الصين، أحد الأطراف المعنية بمآل هذه الحرب وتبعاتها الجيوسياسية، إلى تعزيز موقعها ضمن خرائط القوة والنفوذ التي ستتمخض عن هذه الحرب. وبالتوازي، تشهد الساحة الصينية جدلاً متنامياً على خلفية الموقف من الأزمة. فمن ناحيةٍ، تُقرّ بكين بمشروعية المخاوف الأمنية الروسية من تمدّد حلف الناتو شرقاً، وتتجنّب إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، واعتبرته ''عملية عسكرية خاصة''، لكنّها، في الوقت نفسه، تؤكّد على احترامها ''سيادة الدول وسلامة أراضيها''، وتدعو إلى حلّ سياسي للأزمة، كما سبق أن أرسلت مساعداتٍ إنسانيةً رمزية إلى أوكرانيا. ومع اتساع رقعة المواجهة في أوكرانيا، تحاول الصين تفنيد اتهام الولايات المتحدة لها بتقديم مساعدات عسكرية واقتصادية لروسيا تسعفها في التصدّي للعقوبات الغربية. وتتزايد مخاوفها من أن تجد نفسها هدفاً لعقوبات اقتصادية ومالية غربية تستهدف قوتها الاقتصادية، سيما إذا تحوّلت هذه المواجهة إلى حرب استنزاف طويلة ترهق روسيا وتدفع بها إلى حافة الانهيار الاقتصادي.
من ناحية أخرى، بدأت تتعالى داخل الصين أصواتٌ ترى أنّ كلفة الموقف الرسمي المؤيد لروسيا ستصبح باهظة أكثر، إذا ما عجز الروس عن حسم الحرب وتحقيق الأهداف السياسية التي دفعتهم إلى اجتياح أوكرانيا. يتعلق الأمر بباحثين وأكاديميين، بعضهم قريب من السلطة، من بينهم الأكاديمي ورئيس "جمعية شنغهاي لأبحاث الدراسات العامة" هو وي Hu Wei، الذي أكد، في مقالٍ له، على ضرورة أن تأخذ الصين مسافةً من روسيا، وأن تكفّ عن تأييدها من دون الأخذ بالاعتبار الحسابات الجيوسياسية المعقدة للأزمة، ذلك أنّ احتمال تحقيق روسيا نصراً عسكرياً حاسماً في أوكرانيا بات ضعيفاً. هذا إضافة إلى أنّ الوضع الداخلي في الصين لا يسمح بهامشٍ كبيرٍ للمجازفة بالاستمرار في دعم الروس، بحكم ما يمثله العامل الاقتصادي بالنسبة للتوازنات السياسية والاجتماعية القائمة، خصوصاً أنّ شهوراً قليلة تفصل الحزب الشيوعي الحاكم عن عقد أشغال مؤتمره العشرين، الذي يُتوقع أن يمهّد الطريق أمام الرئيس، شي جين بينغ، للحصول على ولاية ثالثة.
يؤكد هذا الجدل أنّ الصين تواجه مأزقاً حقيقياً، فاستمرار الأزمة يعرّض اقتصادها لهزّات هي في غنىً عنها، كما أنّ خسارة الروس الحرب سيجعلها هدفاً قادماً للغرب المتوجّس من تضخم قوتها الاقتصادية، وفي الوقت ذاته، تبدو مدعوة إلى التعاطي ببراغماتية مع الضغوط الأميركية والغربية بعدم تقديم أي مساعدة لموسكو، مع العلم أنّ الولايات المتحدة تدرك أنّ موقف الصين المناور يجد مسوّغاته في تطلعها إلى نظام دولي متعدّد الأقطاب، يُنهي الهيمنة الغربية ويفسح المجال أمامها وأمام روسيا لكسب مزيد من القوة والنفوذ في الساحة الدولية.
لا يبدو هذا المأزق بعيدا كذلك عن قضية تايوان. وتُمثّل الحرب الروسية الأوكرانية بالنسبة للصين مختبراً جيوسياسياً لاستخلاص العبر والدروس بشأن هذه القضية، سيما في ما يرتبط بطبيعة ردود الفعل الغربية والدولية التي واكبت هذه الحرب. وهي ردود فعلٍ فاجأت الصين على أي حال. وعلى الرغم من أنّ إقدامها على اجتياح الجزيرة يبدو سيناريو مستبعداً، على الأقل في المنظور القريب، إلا أن ميزان القوى الدولي الذي سيتمخض عن الأزمة الأوكرانية، سيساهم، على الأغلب، في تحديد هامش المناورة أمامها في إدارة هذا الملف بكلّ تعقيداته.
تبدو الصين معنية أكثر من غيرها بمآل الحرب الروسية الأوكرانية التي ستعيد صياغة الخريطة الجيوسياسية والأمنية في العالم، بما يعنيه ذلك من تشكّل نظام دولي جديد، تطمح إلى أن يكون لها دور رئيس في ترتيباته. ولعلّ ذلك لا يتحقّق إلّا بخروج الروس منتصرين في هذه الحرب، وهو أمرٌ يبدو مستبعداً.