الأرض تدور... إلى الخلف
"عدد الناس الذين يظنّون أن الأرض مسطّحة يزداد. آلاف، إن لم يكن ملايين".. هكذا تقول بحماسة مذيعة قناة WCIA3. منشأ فكرة الأرض المسطّحة ديني في أغلبه، رغم اختلاف الأديان. هناك مجموعات دينية مسيحية ترجع الأمر إلى الإنجيل، مثلما تفعل المجموعات الدينية المسلمة بردّه إلى القرآن الكريم.
يذكّرنا ذلك كيف كانت الكنيسة في العصور الوسطى محتكرة للعلوم، وتعتبر أي محاولةٍ علميةٍ لتفسير العالم "هرطقة". لذلك حوكم غاليليو عام 1633، لأنه جرؤ على القول بمركزية الشمس ودوران الأرض حولها. وهو رأيٌ لم تجده محكمة التفتيش الكاثوليكية في الكتاب المقدّس، ويخالف ما تؤمن به الكنيسة من مركزية الأرض تبعاً لتصوّرها لفكرة الخلق المستمدة من سفر التكوين. فبحسب التوراة، خلق الله النور، وفصله عن الظلمة. وسمّى النور بالنهار، وسمّى الظلمة بالليل. ثم خلق السماء، وخلق تحتها الأرض. وهذا نفسه ما يؤمن به أنصار الأرض المسطّحة المسلمون. أن النهار كائن، والليل كائن، ولا علاقة لهما بالشمس والقمر، بل النهار هو الذي يُظهر الشمس. وعلى نسق الكنيسة الكاثوليكية في القرن السابع عشر، توجد فتاوى لشيوخ مسلمين تؤكّد ثبات الأرض وعدم دورانها، وتسطيحها. رغم وجود جدال كبير بشأن نسبة بعض الفتاوي لبعض الشيوخ، والخلاف حول آراء رجال الدين في عصور سابقة، مثل ابن حزم الأندلسي وابن تيمية وغيرهما. لكن هذا الجدل يوضح كيف أن أموراً علمية يحاول ناسٌ كثيرون حسمَها بالرجوع إلى رجال الدين، لا علماء الفلك والفيزياء. لذلك تنضح مواقع التواصل الاجتماعي بتشنّجات من يكفرّون كل من قال بكروية الأرض أو حركتها، لأن ذلك في رأيهم يكذّب قول القرآن. ولأن لكل فكرة دينية عدوا شيطانيا، فإن وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) قد حملت وزر هذا العداء عند أتباع الأرض المسطحة، فـ"ناسا" عندهم هي "وكالة الشيطان". حتى أن بعض أنصار نظريات المؤامرة الكبرى، الذين يؤمنون بأن قادة العالم هم سحالي قادمة من كوكب آخر تتغذّى على دماء الأطفال، يصدّقون أن "ناسا" مؤسسة يرأسها الشيطان نفسه، في تراتبية مشابهة لفكرة هياكل الماسونية ودرجاتها!
تنتمي أغلب هذه النظريات إلى أفكار العصور الوسطى وما قبلها. وتتّخذ موقفاً حادّاً من كل العلوم الحديثة وتنظر إليها بعداء. وهي مفارقة لافتة للنظر، أن تتراجع المجتمعات الإنسانية لتصديق الأفكار غير العلمية لما قبل عصر النهضة، فكأننا نتطوّر إلى الوراء، وتدور الأرض إلى الخلف.
الانتشار المتزايد لنظريات المؤامرة المضادّة للعلوم في الغرب روّج بالتبعية عند المتلقي العربي أفكاراً مثل إنكار الجاذبية، وعدم وجود الجراثيم، وفبركة غزو الفضاء، وأن القنبلة الذرّية والانشطار النووي كله أكذوبة، في قائمة طويلة من الاكتشافات التي تُبهر محبّي المؤامرة. قد تبدو هذه الأفكار مسلية، لكن من الضروري النظر إليها بشكل أعمق في عالمٍ تتراجع فيه المعرفة العلمية لصالح الشائعة ونظرية المؤامرة والأخبار الزائفة، خصوصا أننا ننتمي إلى بقعة من الكوكب كانت ردّة فعلها التاريخية، حين واجهت البارود والمدافع في الحملات الاستعمارية، أن العامّة هرعوا إلى قراءة "صحيح البخاري" دفعاً لضرر القنابل. .. فبقدر ما في هذه الأفكار من تسلية، إلا أنها تبدو مقلقة على مستقبل العالم.
في فيلم Idiocarcy، وهو أميركي من إنتاج عام 2006، يجد ضابط أميركي نفسه في عام 2505، حيث يسود الجهل وتحكم البلاهة. ولأنه عالمٌ بلا علم وبلا معرفة، فإنه يعاني من نقص الغذاء، ويكتشف الضابط السبب البسيط. هؤلاء البلهاء لا يروون المحاصيل بالمياه!
بالشكل المتزايد لنظريات المؤامرة المضادّة للعلوم، قد نصل إلى هذه المرحلة قبل العام 2505. وربما إذا نجت البشرية حتى ذلك الوقت، تكون هناك محاكمات للمهرطقين الذين يجيدون حساب المثلثات وحل مسائل الجبر.