الأردن يبحث عن حكومات برلمانية
أخْطَرنا، الأسبوع الماضي، رئيس اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية (في الأردن)، سمير الرفاعي، وكنّا بضعة إعلاميين في ضيافة اللجنة، إن الملك عبدالله الثاني سأله عن المدّة التي يحتاجها الأردن للوصول إلى أن تشكّل قوى في مجلس النواب المنتخب حكوماتٍ برلمانية، فأجابه بأنها عشرون عاما، لكن الملك طلب أن تكون عشرة. وفي محاورتهم الرفاعي، في الجلسة التي أدارها المتحدّث باسم اللجنة، مهند مبيضين، وفي تعاليقهم واستيضاحاتهم بشأن ما تعكف عليه اللجنة وما تتداوله اللجان الأربع المتفرّعة منها، منذ الإعلان عنها، وعن أعضائها الـ 92 (صاروا 90)، في 10 يونيو/ حزيران الماضي، لم تستوقف الزملاء كثيرا المدّة التي رجّحها الرفاعي، بشأن الطموح العتيق المتجدّد إلى برلماناتٍ تحضر فيها أحزابٌ متنافسة ببرامج واقتراحاتٍ سياسيةٍ واجتماعية، وتعمل لأن تكون في مقاعد السلطة التنفيذية. وإنما راحت أغلب التعليقات والملاحظات والمؤاخذات، وكان كثيرٌ منها على سويّةٍ طيّبة، إلى التحسّب المتوطّن في المجتمع الأردني ونخبه من أن تخلص اللجنة، بعد اكتمال عملها الذي يتعلق بالشباب والمرأة والأحزاب والانتخابات، إلى توصياتٍ حسنة، لا تتحقق تاليا بالكيفية المنشودة، وجاءت أيضا على حقائق ماثلة في المجتمع متّصلة بالتحدّيات أمام "إصلاح المنظومة السياسية وتحديثها"، من قبيل الضعف العريض للأحزاب، وهيمنة الاعتبارات الأمنية والتطيّر منها لدى عديد الأردنيين. ثم ما أن أعلن الرفاعي، وهو رئيس وزراء سابق، على الإعلام ما قاله قدّامنا قبل أيام، حتى تم استقبال كلامه بكثيرٍ من التهكّم والانتقاد. ولعل هذا ما جعله يوضح ما أدلى به غير مرّة، وموجزه أن اللجنة تبذل جهودا كبيرةً لوضع خريطة طريقٍ للوصول إلى مرحلة البرلمانات الحزبية البرامجية، ما سيكون ضمن إطارٍ تشريعيٍّ يعزّز دور الأحزاب وثقة المواطنين فيها. وقال أيضا (في لقاء في محافظة الكرك) إن تعزيز دور الأحزاب وحضورها يحتاج وقتا لتتمكّن من تحقيق المتطلبات التشريعية الجديدة، إلى جانب تعزيز ثقة المواطنين فيها. وتجنّب الرجل التأشير إلى مدّة مرجّحة أو متوقعة لإدراك هذا الحال، سيما وأن الملك نفسه، في لقاء أخير مع اللجنة ورئيسها، جاء على أن يكون بلوغ الأردن مرحلة أن تتشكّل الحكومات من قوى برلمانية حزبية "في أقرب وقت".
في الوُسع هنا أن يجد واحدنا في المناوشة العابرة هذه مع رئيس اللجنة المكلفة بإنجاز توصياتٍ تنبني عليها تشريعاتٌ لاحقة في موضوعاتها تعبيرا عن رغبة الذين خاضوا في الأمر منتقدين ومتهكّمين بالإسراع من أجل إنجاز الإصلاحات، مستندين إلى أن الأردن عرف، في بعض خمسينيات القرن الماضي، حكومة برلمانية، وأحزابا قوية. وفي بال هؤلاء المعلقين أن الأمر برمّته مرهون بإرادةٍ سياسية. كما في الوسع أن يُلاحَظ أن الذين يجدون أن التدرّج الزمني في سيرورة الإصلاح السياسي ومقتضياتها ولوازمها التشريعية والقانونية هو الأسلم والأنسب، يعاينون ما تشهده الأحزاب في الأردن من ضعف مريع، من حيث افتقادها روافع اجتماعية. ما يتطلّب إشاعة ثقافةٍ أخرى، يطمئن في غضونها الشباب، مثلا، في مختلف المحافظات (ليس فقط في غرب عمّان)، إلى أن ثمّة قيمة لانتسابه إلى هذا الحزب أو ذاك. وهنا تحضُر المسؤولية الكبرى على الدولة، المطالَبة بأن تقيم في عقلها السياسي الحاكم القناعةُ بضرورة تمكين حياةٍ حزبيةٍ نشطةٍ في البلاد، فلا تعمد إلى التدخلات المخابراتية والتشويشات الإعلامية وما إلى هذه وتلك. وفي البال أن حزبا، وسطيا إصلاحيا، عرفه الأردن في التسعينيات، وكان يوصف بأنه حزب الدولة، صدورا عن ولاءاته وإسناده سياسات الدولة، وكان على شيء من الحضور الذي انبنى عليه رهان (أو وهم؟) أن يحقق توازنا مع جبهة العمل الإسلامي (الإخوان المسلمون)، الحزب الأقوى والأكثر حضورا وتنظيما في البلاد، كانت تدخلاتٌ وممارساتٌ من السلطة وراء إضعافه، بل ودعوة أمينه العام الراحل، عبد الهادي المجالي، إلى حلّه، نوعا من الاحتجاج على تهميش السلطة الحياة الحزبية واستضعافَها. وإلى تلك التجربة البعيدة، ثمّة تجاربُ أقرب زمنا توخّى فيها ناشطون حضورا لهم، وشيئا من الفاعلية، لكنها حوربت بغير وسيلة.
غاية القول إنه مع القناعة بأن بحث الأردنيين، أو نخبةٍ عريضة فيهم في الحكم والمعارضة، عن أحزابٍ تتنافس برامجُها أمام الجمهور العام لتصل إلى البرلمان، فتتأهل لمباشرة المسؤولية في السلطة، يحتاج وقتا ليس قصيرا، وتدرّجا على النحو الذي تخوض فيه اللجنة الملكية (التفاصيل طويلة ومتشعبة، وربما عويصة)، غير أن بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، بين صانع القرار والمواطن، يبقى شرطا جوهريا، من قبلُ ومن بعد.