الأردنيون والإصلاح .. جدل متجدّد

02 مايو 2022

(Getty)

+ الخط -

بعد عودة العاهل الأردني، عبد الله الثاني، إلى عمّان من ألمانيا، إذ أجرى فيها عملية جراحية، كانت توقعات الأردنيين إجراء بعض التغييرات الداخلية، وهي توقعات أو تكهنات لم تحدث، وتسري أخبارها كلما سافر الملك إلى الخارج، ويبقى الرهان على إجراء تغيير أو تعديل حكومي أو حلّ للبرلمان مجرّد تكهنات، فهي أمور بيد الملك وفقاً للدستور الأردني.
ومع الإقرار من الجميع بتحدّيات راهنة، داخلية وخارجية، في الأردن، واجبة المواجهة، إلّا أنّ الاستجابة لها قد تكون متفاوتة. فعلى صعيد الملف الفلسطيني والتصعيد في القدس، تحرّك الملك حتى وهو في رحلة العلاج للتدخل وتخفيف حدّة التعدّيات الإسرائيلية، كذلك نشطّت الخارجية الأردنية اجتماع اللجنة الوزارية العربية التي التقت في عمّان، وأكّدت مبدأ الوصاية الأردنية على المقدّسات ورفضت الانتهاكات الإسرائيلية في القدس.
ومع أنّ الحديث الأردني عن فلسطين والقدس بات أمراً من أجندات السياسة الوطنية دائمة الحضور والتفاعل، وهو ملفٌّ شعبي أيضاً بحكم العلاقات المشتركة بين الشعبين، نظراً إلى طبيعة العلاقة الأردنية الفلسطينية ومساراتها التاريخية، إلّا أنّ هذا الملف لا يتحدّث فيه الناس في مجالسهم، كما يتحدثون عن السياسة والإصلاح، أو في تفاعلهم مع القضايا العربية الأخرى، أو بما يجب عمله أمام أزمات الداخل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

السياسات الملكية للعائلة المالكة في الأردن تحسم أمورها جيداً نحو تبديد المخاوف والمقولات والشائعات، والتشديد على استقرار الحكم

ما كان لافتاً في فترة غياب الملك العلاجية، أنّ ولي العهد، حسين بن عبد الله الثاني، نشط في زيارات ولقاءات مكثفة ونوعية ومتعدّدة المستويات، من زيارات المؤسسات العميقة، إلى لقاءات مع النخب، وزيارات شعبية، إلى مباشرة بعض ملفات الحياة اليومية للمواطن الأردني ومتابعتها، وهو تدخلٌ من وليّ العهد أثبت فيه قدرته على ما تولاه من مهام تحت مسمّى "نائب الملك" والتي تعزّزت لاحقاً بمرافقته الملك في زيارته مصر وحضور اللقاء الأردني الإماراتي المصري المشترك. وهنا يبدو جلياً تصعيد حضور نائب الملك، الأمير حسين، في مستويات متعدّدة محلياً وعربياً ودولياً. وبعد عودة الملك، كان لافتاً أيضاً ظهور الأمير هاشم بن عبد الله الثاني في أكثر من مناسبة مع شقيقة ولي العهد، في لقاءاتٍ مع مجموعات شبابية، وفي زيارات لمناطق شعبية في العاصمة عمّان. وهنا يبدو جلياً أنّ السياسات الملكية للعائلة المالكة في الأردن تحسم أمورها جيداً نحو تبديد المخاوف والمقولات والشائعات، والتشديد على استقرار الحكم. ومن صور ذلك الدفع بشكل هادئ، وليس مستعجلاً، بالجيل الجديد من العائلة للظهور المؤسّس دستورياً من جهة الدور المناط بولي العهد دستورياً، أو وفقاً للتقاليد وبرنامج العمل الخاص به، بتولّي بعض المهام، والتركيز على إنجاز حالة تواصلية مع مختلف طبقات الشعب، مع إدخال الأخ الشقيق الأمير هاشم للصورة الإعلامية التواصلية بشكل لافت.
هذا المشهد هو الذي يسود في الأردن، من حيث النظر إلى السلطة والصلاحيات داخل مؤسسة العرش المحسومة حالتها التعاقدية مع الأردنيين، باعتبار أن فلسفة الحكم واضحة، وكذا انضباطه بالدستور وبقانون العائلة المالكة، وهو ما يعزّز استقرار المؤسسة الملكية بشكل واضح. لكن اللافت هو الارتباك المحلي النخبوي إزاء استقبال مخرجات اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، التي أقرّها البرلمان. ويظهر هذا الارتباك في ظلّ عدم الاستعداد الديمقراطي الكافي داخل العقليات والبنيات المحافظة، والأخطر من ذلك اندفاع النخب المحسوبة على الدولة أو المعارضة إلى تأسيس تجارب حزبية جديدة لا قواعد عريضة لها، ومحكومة بذهنية ثقافية في غير صالح التجربة الحزبية، وفي نظرة الناس البسطاء إلى النخب المجرّبة، وفي نظرة شريحة الشباب الأردني إلى المشاركة السياسية، وهي نظرة محكومة بإرث سلبي، وحاضر عنوانه تجاهل قضايا الشباب، على الرغم من جهود تبذلها الحكومات، ولعلّ نتائج استطلاع الرأي الذي أجراه مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، وبيّنت أنّ 1% من الأردنيين فقط يؤمنون بالأحزاب، خير دليل على عمق الأزمة.

إجراء أي تحول سياسي يستلزم تبديلاً يستجيب لإقامة نظم خاص بالشؤون السياسية، بما يُفيد بعملية تحوّل السلطة وامتلاك الجمهور سلطته

ليس الإشكال الأساس لمحاولة التماهي مع مخرجات التحديث السياسي الأردني في أن النظرة سلبية إلى الأحزاب، ولا في أن هذا التحديث جاء نتيجة مخرجات لجنة ملكية واجهت خصوماً كثيرين، أو لأنها كما يقال "جاءت من فوق"، وليس في أنها استلهمت وثائق الإصلاح السابقة التي لم تنجح أو تتمكن من النجاح، مثل الميثاق الوطني، الذي كان ضمن الحقيبة المرجعية التي تسلّمها أعضاء اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، أو في مخرجات لجنة الحوار الوطني لعام 2011. بل الإشكال في بُنية الطبقة السياسية التمثيلية البرلمانية والخروق التي أصابتها، وتعرّضها لتشوهاتٍ كبيرة، منذ إقرار قانون الصوت الواحد للانتخابات النيابية عام 1993، وما طرأ على الممارسة السياسة لاحقاً من مقاولين وأثرياء جدد. هذا مع سيادة سياسة نمط التمثيلين، الجهوي والقبلي، من الحكومات، لمبدأ تدوير النخب وتولي المواقع والمناصب، بالإضافة إلى عقدة تنامي فجوة الثقة بين فئة الشباب بين 18-35 عاماً، التي كانت شاهدة على التحوّل الديمقراطي، ولم ترَ إلا التراجع، وتنامي ضعف الثقة بالبرلمان وبقية المؤسسات، ولم تجنِ هذه الفئة إلا الوعود الحكومية بحياة أفضل، وبطالة أقل، وهي وعود تبخّرت أمام تحدّيات الأزمات الاقتصادية والسياسية التي مرّت بها المنطقة، والنتيجة اليوم ارتفاع في الدَّين العام غير مسبوق وفي نسب البطالة.
كذلك إنّ مثابرة الملك على تحريك الإصلاح إلى الأمام لم تجد قوى مجتمعية مدنية حقيقية لتمثلها، وواجهتها القوى المحافظة والمستفيدة من الوضع القائم، لصالح حالة "اللاتغيير"، مدعومة بمقولاتٍ مغلوطةٍ عن الوطن البديل وتغيير الهوية والعقد السياسي. وفي الحقيقة، إجراء أي تحول سياسي يستلزم تبديلاً يستجيب لإقامة نظم خاص بالشؤون السياسية، بما يُفيد بعملية تحوّل السلطة وامتلاك الجمهور سلطته التي يرى أنها سلبت؛ بسبب التراجع في الحريات والديمقراطية الأردنية التي تراجع تصنيف الأردن بها وفقاً للمؤشّرات العالمية.
وهنا، الملاحظ في الحالة الأردنية أن ثمّة تفاوتاً كبيراً يسكن الطبقة السياسية، وهو تفاوتٌ ترسّخ، بحسب السلطة التقليدية التي تأسّست في المجتمع لبقايا النماذج الممثلة في البرلمان، والمرتهنة بحالةٍ من الكاريزمية المتخيلة، على مستوى المناطقية والجهوية والتعلق بالماضي، وبالتالي في نوعية العمل السياسي الذي تقدّمه هذه النخب، ونتيجة للبعد الأخلاقي للممارسة السياسية والإيمان بالتحديث المطلوب لإنجاز ديمقراطية أكثر مناعة.

F1CF6AAE-3B90-4202-AE66-F0BE80B60867
مهند مبيضين
استاذ التاريخ العربي الحديث في الجامعة الأردنية، ويكتب في الصحافة الاردنية والعربية، له مؤلفات وبحوث عديدة في الخطاب التاريخي والتاريخ الثقافي.