الأحزاب المغربية... تقرير بطعم الاتهام

09 مارس 2024
+ الخط -

أماط تقرير المجلس الأعلى للحسابات (مؤسّسة دستورية) الصادر في 28 الشهر الماضي (فبراير/ شباط)، بشأن تدقيق مالية الأحزاب السياسية في المغرب، وفحص إدارتها الدعم العمومي برسم سنة 2022، اللثام عن جروح عفنة وندوب غائرة في الجسم الحزبي في المملكة، بعدما كشفت صفحات التقرير (179 صفحة) عن اختلالات بالجملة، ترتقي إلى مستوى الفضائح، شابت طرُق تعاطي الأحزاب السياسية؛ أغلبية ومعارضة، مع ملايين الدراهم من المال العام.
عاصفة أخرى تهبّ على حقل السياسة بالمغرب، فيما يشبه تأكيداً على متلازمة اقتران السياسة بالفساد؛ فتوالي الأحداث والوقائع أشاع قناعة لدى الرأي العام المغربي مفادها "ذيوع الفساد في النخب الحزبية"، خصوصاً بعد متابعة البرلماني والوزير السابق للوظيفة العمومية، محمد مبديع، بتهم اختلاس وتبديد أموال عمومية والتزوير والرشوة والغدر واستغلال النفود، ثم انفجار قضية "إسكوبار الصحراء" التي أدّت إلى اعتقال قياديين في حزب الأصالة والمعاصرة المشارك في الحكومة؛ سعيد الناصيري، رئيس مجلس عمالة (محافظة) الدار البيضاء، وعبد النبي بعيوي، رئيس مجلس جهة الشرق، ومتابعتهما بتهم الاتجار الدولي في المخدرات، وتبييض الأموال والتزوير في محررات رسمية.
في المجمل، بلغ عدد البرلمانيين المتابعين، في السنوات الأخيرة، أمام أنظار القضاء، في قضايا فساد 30 عضواً، ما يمثل نسبة %5 من أعضاء الغرفتين، فقدَ بعضُهم الصفة التمثيلية بموجب قرارات المحكمة الدستورية، بعد إدانتهم بأحكام قضائية نهائية. يغطي هؤلاء مختلف الأحزاب، وإن كانت النسبة الكبرى للثلاثي الحزبي المشارك في الائتلاف الحكومي، ما يشكل مؤشراً سلبياً عن مهام البرلمان التشريعية ومراقبة السلطة التنفيذية.

عوداً إلى ما جاء في التقرير الذي وضع الهيئات الحزبية بدون استثناء في موقف محرج، أمام أعضائها وعموم المواطنين وباقي المؤسّسات في البلد، بعدما أثبت بالأدلة والوثائق أن هذه الأحزاب تصرف المال العام الممنوح لها بشكل غير قانوني (المادة 47 القانون التنظيمي للأحزاب)، ما يمثل بنص القانون الجنائي المغربي (الفصل 241) جريمة "اختلاس"؛ فالمال العام في غير محله يعدّ اختلاساً. وفقاً للتقرير على 19 حزباً، من مجموع 29 حزباً التي قدَّمت حساباتها للمجلس الأعلى، أن تُرجع ما قدره 29,21 مليون درهم (2,9 مليون دولار) إلى الخزينة العامة للدولة، باعتبارها إما مبالغ غير مستحقّة (%13) أو استخدمت لغايات غير التي مُنحت لها (%25) أو جرى صرفها من دون اعتماد وثائق الإثبات المنصوص عليها قانوناً (%62).
تزيد الأرقام والنسب التي وردت في تقرير قضاة المال العام بالمغرب كشف أعطاب الحقل الحزبي، وفضح عوراته أمام الأشهاد، فبمجرّد صدور المرسوم المتعلق بصرف دعم مالي إضافي لتعزيز قدرات الأحزاب السياسية في مجال البحث والدراسات، تنفيذاً لما جاء في الخطاب الملكي لافتتاح السنة التشريعية لعام 2018، انتعش الرّيع داخل المؤسّسات الحزبية، بالإمعان في صرف الأموال العمومية، بكرم وسخاء، لمكاتب دراسات وشركات استشارات ومراكز بحثية تأسّست تحت الطلب، تعود ملكيتها لأشخاص تربطهم قرابات بقادة الأحزاب، وذلك لإعداد دراسات أغلبها لم ينجَز، وحتى إن تمّت، فغالباً ما يكون المنجز عرضاً أو مذكرةً أو تقريراً لافتقاده إلى أبسط الضوابط المنهجية المتطلبة اتباعها لإعداد الدراسات.

بلغ عدد البرلمانيين المتابعين، في السنوات الأخيرة، أمام أنظار القضاء، في قضايا فساد 30 عضواً

حدث ذلك في غياب تام لاحترام ضوابط التنافسية والشفافية، من قبيل اعتماد مسطرة طلب العروض لاختيار الخبراء، فحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، مثلاً، أسند إنجاز 23 دراسة، تغطي مجالات متنوعة (الاقتصاد والضرائب والتعليم والتشغيل...)، بمبلغ جزافي 1,83 مليون درهم (183 ألف دولار)؛ ما يعادل %95 من إجمالي الدعم، لشركة استشارات في ملكية نجل زعيم الحزب إدريس لشكر. فيما اعتمد حزب التجمّع الوطني للأحرار الذي يقود الحكومة حالياً التعدّدية في التعاقد مع مكاتب دراسات (ثلاثة مكاتب)، لكنه خالف القانون بأداء تسبيقات تقدَّر بنصف المبلغ المحدد في 5,62 ملايين درهم (562 ألف دولار) لفائدة مقدّمي الخدمات، فضلاً عن عدم إدلائه بأي وثيقة عن حصيلة الدراسات المنجزة (44 دراسة) ومخرجاتها. وتعاقد حزب الأصالة والمعاصرة مع مركز الحوار العمومي والدراسات المعاصرة، لإعداد ثماني دراسات، بمبلغ إجمالي قدره 4,36 ملايين درهم (436 ألف دولار) من دون تقديم أي دليل يفيد إنجاز تلك الأبحاث فعلاً، مبرّراً الأمر بإلزامه من المركز بعدم تداولها خارج دوائر الحزب. لكن قيادة الحزب سقطت في تناقض، في معرض الدفاع عن اختيارها هذه المؤسسة، التي ادّعت أنها مركز داخلي تابع للحزب، فهل يُعقل أن يمنع جهاز داخلي (مركز بحثي) الحزب من نشر ما ينتج من وثائق؟
أظهر التقرير كذلك منسوب العجز لدى التنظيمات الحزبية، حيث أكدّ أن ثمانية أحزاب تعيش بلا موارد باستثناء الدعم العمومي، فيما يمثل هذا الدعم النصيب الأكبر من ميزانية أحزاب ذات شرعية تاريخية ونضالية صنعت محطّات سياسية فارقة في المغرب المعاصر، مثل: الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية (%81) والاستقلال (%74) والتقدّم والاشتراكية (%61)، ما يطرح سؤالاً عريضاً عن أسباب عجز هذه الأحزاب العريقة عن تحقيق الاستقلال المالي، بتأمين مواردها المالية بعيداً عن الدولة.

تزيد الأرقام والنسب التي وردت في تقرير قضاة المال العام بالمغرب كشف أعطاب الحقل الحزبي، وفضح عوراته أمام الأشهاد

يبقى حزب التجمّع الوطني للأحرار بقيادة رجل الأعمال عزيز أخنوش استثناء، بحسب التقرير، إذ استطاع الحزب تعبئة أكثر نصف موارده المالية التي تفوق 50 مليون درهم من الهبات والتبرعات (26,5 مليون درهم)، بالرغم من كونه من زمرة أحزاب القصر، فقد كان منذ تأسيسه، عام 1978، على يدي أحمد عُصمان؛ صهر الملك الراحل الحسن الثاني، من أدوات المخزن، يحركها ذات اليمين وذات الشمال لتحقيق التوزان في المشهد الحزبي. ما يفترض التعويل على الدولة التي كانت سبباً في ظهوره لتأمين موارده وليس العكس، بالعمل على تحقيق الاستقلالية المالية، خصوصاً أنه حزب بلا إيديولوجية وبلا قاعدة جماهيرية!
يظهر أن زعماء الأحزاب لم يتوقّعوا أن تكون مضامين التقرير قاسية إلى هذا الحد، فأجمعوا على الهجوم، تارة على التقرير وتارة أخرى على المؤسّسة، وإن اختلفت أساليبهم في ذلك، فهم لا يروْن فيه إلا تبخيساً للعمل السياسي، وتحقيراً لرجال السياسية، ناسين أو متناسين أنهم يشكّكون في مصداقية مؤسّسة دستورية، ربما يستجدون خدماتها غداً أو بعده عند المنازعة بشأن تدبير مال عام في إدارة مركزية أو محلية.
استناداً لمثل هذه الأحداث والوثائق التي تهز المشهد الحزبي في المغرب، يستطيع المواطن المغربي أن يفهم سبب عجز الأحزاب، بمختلف تلاوينها، عن محاربة أخطبوط الريع والفساد، فضلاً عن استيعاب دواعي تجميد العمل بالاستراتيجية الوطنية لمحاربة الفساد، رغم المصادقة عليها منذ أواخر عام 2015، وتوافق الحكومات الضمني على دفن قوانين مهمة، مثل تقنين تضارب المصالح. وقد يفهم أيضاً أسباب سحب الحكومة الحالية قانون الإثراء غير المشروع، بعد مناقشات مستفيضة ست سنوات في البرلمان. وبين هذا الفهم وذاك التأويل يردّد لسان حاله أن "القانون صاغه الأغنياء لحماية أنفسهم من الفقراء".

E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
محمد طيفوري

كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.

محمد طيفوري