اقتصاد حرب... أي حرب؟
قبيل استدعاء أنور السادات، المسار والتجربة، في حديث "السيراميك والجبن والشيكولاتة والفويل" الذي جاء به الجنرال عبد الفتاح السيسي، من دون ضرورة درامية، إذ كانت المناسبة افتتاح محطّة سكك حديد، كان رئيس وزرائه مصطفى مدبولي يلّوح للشعب المصري بفرض حالة اقتصاد حرب.
بدا الأمر متناقضاً تماماً، كون استدعاء سيرة أنور السادات، غالباً، يكون بقصد توجيه رسالة إلى من يعنيه الأمر، واشنطن وتل أبيب، مفادُها بأنّ مصر مُلتزمة، وبإخلاصٍ شديد، بمسار التطبيع والسلام الشرق أوسطي الذي قصم ظهرها وجعلها لا تقوى إلا على استدرار مزيد من القروض والمنح والمساعدات، نظير تفانيها الشديد في خدمة المشروع الساداتي.
كان السيسي يتكلّم في سياق إظهار "ساداتيّته" فيما خصّ السياسة الخارجية، قائلًا "كل الدنيا قاطعت مصر وقت حكم الرئيس الراحل أنور السادات وثبت مع الوقت أنه هزم خصومه وهو غير موجود!". غير أنّه بشأن الأوضاع الاقتصادية بدا عكس السادات تماماً، ويكاد يرتدي قميص جمال عبد الناصر وهو ينتقد بشدّة استيراد بعض السلع من الخارج، ما تسبّب في انهيار العملة المحلية واستقواء الدولار والعصف بالصناعة الوطنية، بينما كان أشهر ما عُرفت به الأوضاع الاقتصادية فترة حكم السادات أنّها كانت مرحلة "الانفتاح السداح مداح" بتعبير الكاتب الراحل أحمد بهاء الدين، وهو يصف العصف بالاقتصاد الوطني لفتح الأبواب أمام عصر الاستيراد المنفلت وعودة الامتيازات الأجنبية في صورة الشركات متعدّدة الجنسيات.
بعيداً عن أنّ الذي يشكو من قصورٍ في الصناعة الوطنية هو الذي أغلق القلاع الصناعية التاريخية الكبرى وصفّاها وباعها، فإنّ تبرير الأزمة الاقتصادية وانهيار العملة المحلية، أو ما يسمّيه "غلاء الدولار"، بعيداً عن أنّ ذلك يبدو باعثاً على السخرية، كون الناس يعلمون أنّ القصور ناتجٌ بدرجة أكبر عن الإنفاق الهائل في بناء القصور الرئاسية الفخمة، فإنّ المفارقة هنا أنّ حديث السلام الناعم الهادئ المستكين، هذا، يناقض تلويح رئيس الوزراء، مصطفى مدبولي، على طريقة الجنرالات، بالذهاب إلى فرض حالة اقتصاد حرب، بالنظر إلى الظروف الإقليمية الراهنة، فالثابت أنّ مصر ليست طرفاً في هذه الحرب التي يشنها الاحتلال الصهيوني على غزّة ولبنان، وإيران واليمن وسورية، كما أنها لم تتضرّر منها ماليًّاً، بل انفتحت صنابير القروض والأموال وصبّت فوقها عشرات المليارات من الدولارات، نظير مواقفها من هذه الحرب، إلى الحدِّ الذي سكتت معه عن اعتداء تل أبيب على سيادتها وكرامتها الوطنية باحتلال معبر صلاح الدين وغلق معبر رفح، وخنق مليوني إنسان فلسطيني محاصرين في قطاع غزّة تحت وابل من القصف الصهيوني الذي لم يتوقف يومًا منذ عام كامل وأسبوعين.
والحال كذلك، عن أيِّ حرب يتحدّث الجنرال مدبولي، ويُنذر المصريين بحالة اقتصاد الحرب؟ إثيوبيا؟ يدرك الصغير والكبير أنّه منذ عام 2015 وابتزاز الجماهير بالخطر الأثيوبي لم ينقطع، ولن ينقطع كونه واحدة من فزاعات الأمن القومي التي تُتيح لمستخدمها تسويق سياسات اقتصادية تطحن العظام، وسياسات أمنية تسحق الكرامة الإنسانية والحريات.
أيّ معركة تلك التي تقتضي فرض حالة اقتصاد الحرب؟. في الغالب، هي الحرب على الإنسان وعلى الحريات، أو قل الحرب على عالمة الرياضيات المصرية، ليلى سويف، وهي تُضرب عن الطعام منذ أسبوعين، وهي في سبعينيات العمر، بعد أن عجزت عن استرداد ابنها الوحيد من السجن بعد انقضاء فترة عقوبته، الظالمة أصلاً؟ أم يقصد الحرب على المحارب القديم المهندس، يحيى حسين عبد الهادي، الذي أطلق صرخة من زنزانته المحبوس فيها احتياطيّاً يطلب تكفينه في ملابس المعتقل حال وفاته، بعد أن يئس من نيل حقه في المحاكمة العادلة والحرية؟ أم الحرب على أبناء الطبيب والنائب السابق مصطفى النجار ووالدته العجوز، والذي يدخل عامه السابع بعد إخفائه قسريّاً، ولا يوجد إنسان مسؤول في الدولة يرأف بحال أسرته ويجيب عن سؤال "أين مصطفى النجار؟"، أم الحرب على هدى عبد المنعم، المحامية والعضو السابق في المجلس القومي لحقوق الإنسان، التي انتهت محكوميتها بالحبس خمس سنوات، فاخترعوا لها قضية جديدة واصلوا حبسها على ذمتها؟ أم هي الحرب على رسّام كاريكاتير اسمه أشرف عمر، عبّر عن رأيه في عملٍ فني، فاعتُقل وأُلقي به في غياهب الحبس الاحتياطي المتجدّد بانتظام؟ أم الحرب على الصغير، معتز أحمد محمد حسن صبيح، الذي اختُطف من منزله قبل ثماني سنوات وهو طالب بالفرقة الأولى بكلية الهندسة جامعة القاهرة، وبعد فترة إخفاءٍ قسري أُلقي به في السجن منذ عام 2016، وتمكّن من اجتياز امتحانات كليّة الهندسة بتفوّق وهو سجين، وحُرِم من التخرّج، لأنّ سلطات السجن لم تسمح له بإنجاز مشروع عملي هو شرط لازم للحصول على شهادة التخرّج؟
معتز صبيح، مثل آلاف غيره، شابوا قبل الأوان في السجون، وفتكت بهم الأمراض والحرمان من العلاج اللازم منها، هل هؤلاء المعنيون بالحرب التي يتكلّم مصطفى مدبولي عن اقتصادها؟