اغتيال أسرة هنيّة: التصويب على الوساطة
لا تبتعد عملية اغتيال شهداء أسرة رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، كثيراً عن عملية تدمير المفاعل النوري العراقي في بغداد في يونيو/ حزيران 1981، بعد ثلاثة أيام فقط من اجتماع شهير بين أنور السادات ومناحم بيغن على أرض سيناء، بما بدا معه وكأن تورّطٌ مصريٌ ساداتيٌّ كان حاضراً في الجريمة على نحو ما.
اغتيال أسرة هنيّة بتخطيط جهاز الشاباك الذي كانت قياداته محلّ حفاوة دافئة في القاهرة في الأيام السابقة لعيد الفطر، وفي ظل مناخ مفتعل من التفاؤل بإنجاز صفقة تهدئة، هو، في وجه من الوجوه، اغتيال لمفهوم الوساطة النزيهة، ومحاولة إظهارها آلية مفيدة للاحتلال يعود إليها كلما احتاج.
في ذلك، مخجلٌ أن يتعلق بعض الرسميين العرب بوهم يقول إن عملية اغتيال أبناء رئيس المكتب السياسي لحماس الثلاثة وأحفاده الأربعة جرى ارتكابُها من دون علم أو موافقة رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، أو كبار أركان حكمه من السياسيين والعسكريين، وأن القرار جرى اتّخاذه في مستوى عسكري أصغر.
هذا معيبٌ ولا يدخل عقل طفل، لأن عمليات الاغتيال لم تستهدف سبعة شهداء أبرار من عائلة هنيّة فقط، وإنما استهدفت موائد التفاوض الممدودة في فنادق الوسطاء بحثاً عن صفقة لوقف إطلاق النار، إذ تتعدّى الأهداف الصهيونية هنا موضوع الضغط على ممثلي المقاومة الفلسطينية للرضوخ والإذعان للشروط الإسرائيلية، إلى إظهار مزيدٍ من الاستخفاف بالوساطة، بما يبدو معه وكأن الغاية من الوساطة امتصاص الغضب العالمي المتصاعد من الصلف الإسرائيلي من جهة، وتبريد الشارع العربي الذي كان قد أخذ في الاشتعال خلال الأسبوعين الماضيين، عن طريق إشاعة مناخ من التفاؤل الكاذب بإيقاف المقتلة المنصوبة في غزّة بشكلٍ دائمٍ أو مؤقّت.
يضرب الصهيوني في غزّة، فيسارع البيت الأبيض بالإسناد العسكري والدعم السياسي، معتبراً ما يفعله الاحتلال دفاعاً عن النفس. ويشنّ الصهيوني اعتداءاته على الاراضي السورية واللبنانية، مستهدفاً كل من يقاوم ويساعد على المقاومة من لبنانيين وسوريين وإيرانيين، فيعلن الأميركي تفهّمه، وإذا فكّر أحدٌ بالردّ يسارع بايدن وفريق عمله إلى إعلان أنه لن يترك حليفته وحدَها، وسيحارب من يحاربها. ثم بعد ذلك كله مطلوبٌ منّا أن نصفّق ونتنفس الصعداء إذا تواضع بايدن وعبّر عن اعتراضه على معدّلات القتل والتدمير التي يعمل وفقها الاحتلال، وأن نشكرَه على عطفه وكرمه إذا عارض نتنياهو في اجتياح رفح، الآن، من غير خطّة واضحة، وكأن الاعتراض فقط على غياب الخطّة، وليس على قصف أكثر من مليون إنسان فلسطيني يتكدّسون نزوحاً من الموت في كل مناطق قطاع غزّة، إلى الموت قصفاً في رفح.
مسألة التحذير الكلامي من التوغّل في رفح، من دون فعل مادي رادع للجنون الصهيوني هي شكل آخر من أشكال التفاهة الدبلوماسية التي يتصوّر أصحابها أنهم بتصريح أو تحذير مقتضب قد غسلوا أيديهم من الدماء المتوقّع سفكها حال بدء تنفيذ نتنياهو عدوانه الذي يصرّ عليه، ويؤكّد، صباح مساء، أن لا قوّة في الكون يمكن أن تمنعه، وهو مدركٌ تماماً، ولديه ما يطمئنه على إدراكه، أن أقصى رد فعل على هجومه لن يزيد عن مشروع قرار في مجلس الأمن سوف تتصدّى له الدفاعات الدبلوماسية الأميركية، باستخدام الفيتو، أو امتناعٌ عن التصويت يعقبه تأكيدٌ أن القرارات غير ملزمة وغير واجبة التنفيذ.
مشكلة الفعل السياسي العربي، وقد دخلنا الشهر السابع من العدوان على غزّة، أنه تابعٌ للأميركي والأوروبي، يدور في اتجاهه ويسرع ويُبطئ حسب سرعته، إلى الحدّ الذي لن أكون مبالغاً لو قلتُ إنه صار جزءً من أدوات الإدارة الأميركية التي تحضُر في الصراع باعتبارها مدير عام الشرق الأوسط، الذي يوزّع المهام والأنصبة والأرباح ويكافئ على الأداء، مع الوضع في الاعتبار أن كل ما صدر عن هذه الإدارة من معارضات لنتنياهو يتعلق بالطريقة والتوقيت والإيقاع، ولا معارضة له على الإطلاق في الأهداف الكلية أو النهائية لعدوانه الإجرامي، الذي أثبتت الأيام والشهور أنه اختيارٌ اميركي واعٍ أو يمكن وصفه بأنه ضرورةٌ أميركيةٌ تمهّد لإعادة ترتيب المنطقة سياسيّاً وجغرافيّاً.