استضعاف العربية وتحدّي الفرنسَة في المغرب
تأخذُني الحيرة ويستبد بي العجب، مرّات، حين أخرج إلى الشارع العمومي في بلادي، المغرب، فأرى اللغة الفرنسية باسطةً أجنحتها على واجهات البنايات الحكومية والمصالح الإدارية والمقاهي والمطاعم ودور السينما والمحلات التجارية، إلى غير ذلك من المرافق العمومية والخصوصية، حتى لتظنن نفسك مقيما في مدينة فرنسية.
وحتى قبل أيام، لمّا كنت أتابع مباراة النادي الأهلي المصري والوداد البيضاوي برسم نهائي أبطال أفريقيا، لاحظت أن اسم مركب (استاد) محمد الخامس مكتوب باللغة الفرنسية أولا، ويليه بالعربية ثانيا، وكأن المسؤولين يسلّمون بكيفية ضمنية أن لغة فولتير تعلو على لغة المتنبّي.
وحتى لا تُفهم هذه الملاحظة بشكل غير دقيق، أشير إلى أن تعلم اللغات الحية هو من أوجب الواجبات على شبابنا المغربي الناشئ، ولكن بشرط واحد وأوحد، أن يتقنوا لغتهم الأم أولا، فيتكلموها بطلاقة، كما تتكلم الشعوب المختلفة لغاتها، وذلك من دون أن نطالبهم بأن يكونوا فيها ضليعين ومبرزين.
أجل، تعلم اللغات الحية، وخصوصا الإنكليزية منها (أصبحت اليوم بقوة الأشياء لغة العلم والمال والأعمال)، هو مفتاح للتواصل مع أمم كثيرة، قصد الاطلاع على حضارتها وتقاليدها للنهل من كل ما هو إيجابي فيها. ويؤكّد علم النباتات لنا أن الشجرة حين تلقم بعود أجنبي عنها تعطي ثمارا لذيذة في الطعم ووافرة في الحجم. ونحن لا نكره أن يكون للإنسان العربي عقل، مثل عقل سيدنا سليمان، فيُتقن جميع لغات البشر ويتعلّم حتى منطق الطير. أقول هذا كي لا أتّهم بالانغلاق والتعصب.
الأدهى والأمر أنه يوجد من بين النخبة من يفتخر بجهله المطلق بلغته، فتراه إنْ تحدّث بها يتصنّع الأخطاء
وليس لدي شخصيا أي ضغينة أو عداوة مع اللغة الفرنسية، بل على العكس، أحترمها وأقدّرها وأعترف أنها كانت لغة فلاسفة عصر الأنوار الذين أحدثوا قطيعة مع العالم القديم ومعالمه المرتكزة على الاستبداد والفكر الخرافي. وأكاد أزعم أني أتكلمها بسهولة وأكتب بها بطلاقة. غير أن ما يحزّ في قلبي ويجعلني أتساءل دائما بكثير من الحسرة والمرارة، هو بأي وصفة سحرية استطاع رجل فرنسي واحد، اسمه المارشال ليوطي، أن يفعل بنا كل هذه الأفاعيل، فينجح كل هذا النجاح الباهر في طمس ركن أساسي من أركان هويتنا، وهي لغتنا الأم، فيجعلها في الدرجة الثانية خلف لغة بلاده.
لقد مرّ على استعمار فرنسا للمغرب 111 سنة بالتمام، وما زالت الفرنسية لغة النخبة الحاكمة، تتحدّث بها في حياتها العامة والخاصة، وتستنكف أن تتحدّث بالعربية لاعتقادها أنها لغة الجهل والتخلف، حتى لترى الواحد من هذه النخبة المتعجرفة إذا ما اضطرّ للقيام بعرض رسمي بلغة بلاده أمام البرلمان أو في محفل دولي، يتهجّى كما يتهجّى أطفال القسم التحضيري، فيُتأتئ ويفأفئ بورقةٍ ترتعش في يده والعرق يتصبّب من جبينه بشكلٍ يثير الاستهجان أكثر مما يثير الشفقة.
وفضيحة وزير التعليم المغربي الأسبق خير دليلٍ على ذلك، حين تلكأت كلمة "المتوَّجين" بين شدقيه، فتمنّعَت أن تخرُج، فنطقها أولا "بالمتوجّة، (بتشديد الجيم) والمتوجين والمتوجين الجدد، وبعض قدماء المتوجين الذين..." (ذلك كله بتشديد الجيم وكسره) إلى أن منّ الله عليه بالفرج فنطقها سليمة في المحاولة الخامسة، حيث تنفس الصعداء، وحمد التعليم المغربي ربه لكون المسؤول الأول عنه لم ينطق لسانه المتدرّب على اللغة الفرنسية بما هو أدهى وأمر. والطامة الكبرى أن مثل هؤلاء يجدون من يهنئهم ويصفّق لهم وكأنهم وزراء فرنسيون خطبوا على المغاربة بعربية عرجاء، ليشكر لهم تواضعهم وتسامحهم معهم على ما اعترى خطابهم من زلّات وهِنات. بل الأدهى والأمر أنه يوجد من بين تلك النخبة من يفتخر بجهله المطلق بلغته، فتراه إنْ تحدّث بها يتصنّع الأخطاء، ومن حوله يصحّحونها له وهم منه يضحكون، وهو يشاركهم ضحكهم وفي نيته أن يضحك عليهم.
اللغة الفرنسية كانت (وما زالت) هي التي تأتي في الصدارة، فقد كان عناصر الجيش المغربي وضباطه يتكوّنون ضمنيا من أصناف عدة
وإني لأذكر أنه، في نهاية الستينيات، وأنا ضابط صغير أزاول وظيفة التدريس في مدرسة عسكرية لتكوين ضبّاط الصف، أن اللغة الفرنسية كانت (وما زالت) هي التي تأتي في الصدارة، فقد كان عناصر الجيش المغربي وضباطه يتكوّنون ضمنيا من أصناف عدة. أولها النخبة الخالصة المتكوّنة من خرّيجي مدرسة الضباط "سان سير" الفرنسية. يليه خرّيجو الأكاديمية العسكرية في مكناس (المسمّاة مدرسة الدار البيضاء)، ثم يأتي الصنف المسمّى "الزونار" أي المنطقة الشمالية، ويقصد بذلك المتخرّجون من مدرسة طليطلة الإسبانية. ثم المتخرّجون من المدارس العسكرية العربية، كمصر وسورية والعراق، وهؤلاء كانوا يُنعتون بكيفية قدحية من نخبة الضباط الفرانكوفونيين بالفقهاء، بمعنى أنهم درسوا الفنون الحربية باللغة العربية، وهذه اللغة، في نظر المستهزئين منها، لا تصلح إلا لدراسة الفقه ومتون الأجرومية وابن عاشر (فقيه مغربي مالكي). وفي النهاية صنف "الصاعدين من البردعة" وهم الأميون الذين تدرّجوا رويدا رويدا في مراتب الجيش، حتى بلغوا رتبا سامية. وأعتقد أن الأمر تغير اليوم، ولم تعد أغلبية من في الجيش لا تتخرج إلا من أكاديمية مكناس، وبتأهيل عسكري فرنسي صرف.
حصل لي، قبل أسابيع، أن ذهبت إلى الترحم على بعض أفراد عائلتي، كانوا قد توفّوا في خضم جائحة كورونا، ودفنوا في مقبرة موجودة في حي للأغنياء، حيث معظم القبور تحمل أسماء عائلات معروفة بنفوذها وغناها، وتتنافس من حيث الفخامة والإبداع، وكلها مبنية بالرّخام الأبيض الشفاف، فهَالَنِي، وأنا أتنقل بين ممرّاتها أن أقرأ على بعض الشواهد عبارات ترحّم كتبت باللغة الفرنسية. فقلت في نفسي، حتى في مثوانا الأخير تُلاحقنا أيها الجنرال؟ فبماذا أدّى هؤلاء المتوفون شهادتهم إن كانوا قد وجدوا متسعا من الوقت لتأديتها، هل بلغة محمد صلى الله عليه وسلم أم بِلغتك؟ أتمنّى ألا أكون مخطئا لو سألتُ علماءنا الأجلاء إن كان يجوز للغة الفرنسية أن تزاحم زميلتها العربية، حتى على شواهد أجداث المسلمين في بلاد العرب؟ أم أن الجواز مستحبٌّ إن كان أصحاب تلك القبور من حاملي الجنسيتين، المغربية والفرنسية؟
ومن الطرائف أني جلست يوما في مقهى حديث البناء، وكان فاخرا ويحمل اسم "الإيليزي"، فسألت مالكه لماذا لم تطلق عليه اسما عربيا؟ فأجابني وعلى وجهه علامة امتعاض: أتريدني أن أسميه مقهى "النحلة"، فيغشاه الدبابير والحشّاشون؟
لك الله يا لغتنا العزيزة.