استجواب المخذولين في التاريخ

10 سبتمبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

في غمرة مشاعرَ ثقيلةٍ يطغى عليها الإحساس بالخذلان، ومع تفاقم حالة عربية عامّة يغمرها الألم والحزن والغضب، جرّاء العجز والانكشاف وقلّة الحيلة أمام تدفقّ سيلٍ لم ينقطع في مدى الأشهر الطويلة الماضية، من تقارير إخبارية مروّعة ومن مشاهدَ صادمة منقولة أوّلاً بأوّل من عين المكان المنكوب في غزّة، طفت في قشرة الذهن فكرةُ فانتازيا مبكيةٍ مضحكةٍ، قوامها استدعاءُ رهطٍ من المخذولين في التاريخ لاستنطاقهم وأخذ شهاداتهم واستجلاء ما دار في خلد كلّ منهم بشأن ما استبدّ بهم من مشاعر مكتومة، وأوغر صدورهم، في ذروة اللحظة الفاصلة بين الحياة والموت، ومن ثمّة إعادة شرح أنفسهم في ساعةٍ فاتت وانقضت، ساعة لا ينفع فيها الندم.
الفكرة الجاري بيانها في هذه الإطلالة مقتبسةٌ من كتاب صدر قبل 40 سنة في الكويت، عنوانه "المظلومون في التاريخ"، لصاحبه شاكر مصطفى، تضمّن قائمةً من المشاهير العرب، وغيرهم ممن أعاد الكاتب تقديمهم بنحو مختلف عما هو سائد، كسر فيه الصورة النمطية الرائجة عن قسوتهم وظلمهم وسوء سمعتهم، وأبان، من خلال بحثه المتأنّي، جوانبَ مغايرةً من سِيَرهم الحافلة بمآثر وفضائل أغفلها الرواة غير المُحايدين، وحجبها عن العامّة ولاةٌ ظالمون وحُكّامٌ صغار لاحقون، فما زلت أذكر من بين هؤلاء المُفترَى عليهم والي العراق الأموي الشهير الحجَّاجُ بن يوسف الثقفي.
من خارج دفّتي الكتاب المذكور آنفاً، أحسب أنّ يوليوس قيصر، سيّد روما وإمبراطور أكبر مملكات التاريخ القديم، كان أشهر المخذولين في مرّ الحُقَب والأزمنة، فلم تُغادر خيالي منذ أيّام التعليم المدرسي صورةُ هذا القيصر المخذول، ولم تبرح ذاكرتي ملامحُ تلك الشخصية التي نمنمها وليم شكسبير (1616)، في واحدةٍ من أروع مسرحياته، سيّما لحظة انهيال الخناجر والسكاكين، من دُبرٍ ومن قُبلٍ، على جسد الإمبراطور وهو على العرش المنيف، ليس من أعدائه المتربّصين به في الخارج، وإنّما من أعوانه وقادته المُقرَّبين، في مشهدٍ راعفٍ يستقطر الخذلان قطرةً قطرةً، ويُجسّد الغدر بالألف واللام.
لم يقصّ علينا المؤرّخون الثقاة كثيراً عن مصرع يوليوس قيصر، ولم ينشغلوا بما دار من سجالٍ ولومٍ وعتابٍ نشب حتماً بين القيصر وقادة جنده قبل ساعة الانقضاض على مقام الإمبراطور، ولم يهتمّوا بالصراخ المرافق للحظة إشهار السكاكين المخفية تحت الأرواب وخلف ظهور كبار الشيوخ المدجّجين بمشاعر الانتقام، ولم ينقلوا إلينا إلّا العبارة الخالدة أبد الدهر، تلك التي فاضت على لسان المضرّج بدمه، وهو يُجيل ناظريه بين جمع مساعديه، ورأى ما لا يُصدّقه عقل عظيم روما، ولم يخطر له في بال، حين لمح من بين الخناجر المتكاثرة عليه خنجر بروتس صديقه الأثير، ويبدو أنّ تلك الطعنة كانت الأشد إيلاماً، فقال قولته التي ذهبت مضرب الأمثال في مقام الخذلان "حتّى أنت يا بروتس".
في واقع الأمر، هناك روايات تاريخية عديدة عن وقائع الخذلان الخاصّة بالأفراد، سيما المشاهير، غير أن هناك افتقاراً شديداً للحكايات والأمثال عمّا تعرّضت له الشعوب من خذلان وظلم وجور في مرّ الزمان، وأحسب أنّ الشعب الفلسطيني كان في طول المدى في مقدّمة أولئك المخذولين كلّهم في العصر الحديث، ولعلّ ما يتعرّض له هذا الشعب في هذه الآونة من حرب إبادة وتطهير عرقي وتجويع، تحت سمع (ومرأى) الأشقاء في الجوار القريب، هو المثال الحيّ الملموس على مثلبة الخذلان ونقيصة الغدر وعار التخلّي عن الأخ الشقيق في ساعة من ساعات الشدّة المتمادية بالطول والعرض في وضح النهار.
أمام هذه المشاهد الموثّقة بالصوت والصورة عن رذيلة الخذلان، وفي غمرة هذا الفيض من الألم الفلسطيني إزاء ظاهرة الترك والنسء الناجمة عن عجز أو تواطؤ أو غير ذلك، فإنّ السؤال الموجع المطروح على ذوي الضمائر اليقظة، هو ما الحاجة إلى استدعاء المخذولين من بطون الكتب، واستجوابهم من جانب روائي معاصر أو صانع أفلام، إذا كان لديه هذا العدد الهائل كلّه من الشهود الأحياء المخذولين، ممّن تدوّي آهاتهم في أسماع بني قومهم آناء الليل وأطراف النهار، ولا يتردّد لنداءاتهم صدىً في الوادي العربي السحيق، الأمر الذي يدفعهم إلى القول بإحباط ونشاف ريق، مرّة بعد مرّاتٍ بلا حصر: "حسبنا الله ونعم الوكيل".

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي