اختيار أديل واختيار ياسر جلال
تخيّل أن حاكمًا في بلاد العرب قرّر أن يشرف بنفسه على حفل تتويجه، ملكًا أو رئيسًا أو سلطانًا، واختار أسماء بعينها للغناء في احتفاله الأسطوري، فماذا سيكون ردّ فعل المطربين والمطربات؟.
أتصوّر أن فضائيات الصباح والمساء كانت ستفتح هواءها لاستضافة المبشّرين بالغناء للزعيم، يرغون ويزبدون في هذا التشريف الذي هو أرفع من كل الجوائز، وأكبر من كل الأوسمة والشهادات، وأثمن من كل الأرباح والمكاسب .. إنه المجد يطرُق أبوابهم تتويجًا لمسيرة كفاحٍ كان لا بد أن يكافأوا عليها، لأنهم أخلصوا للفن وللوطن.
من الممكن، كذلك، أن يتطرّق بعضهم إلى عظمة السيد وزير الإعلام والثقافة الذي أبلغهم بالاختيار السعيد، وقد يكون هو صاحب الفضل في تزكية مواهبهم عند جلالته أو عظمته أو فخامته، ولذلك تركوا، فور إبلاغهم بالتشريف، كل شيء وجمّدوا كل نشاط، وقاطعوا النوم والراحة، واحتشدوا بكل قواهم الذهنية والجسدية لخوض المعركة الغنائية الباسلة، متفرّغين لاختيار ما يليق بجلال المناسبة من كلماتٍ وألحان وأزياء، ووضع أنفسهم تحت تصرّف القائمين على المناسبة القومية المقدّسة.
مصر، على سبيل المثال، من خمسينيات القرن الماضي وحتى بدايات القرن الحالي، والغناء للزعيم وبأمر الزعيم وعلى ذوق الزعيم كان عملًا وطنيًا جليلًا، ومهمة قومية مقدّسة، سواء في مناسبات مثل الاحتفال بذكرى تزعيم الزعيم أو تعافيه من المرض، كما جرى مثلًا مع حسني مبارك في العام 2010 بعد عودته من رحلة علاج طويلة في ألمانيا، فكان لا بد من احتفالية قومية تستقبله. وفي ذلك نشرت صحيفة الأخبار الحكومية فى عددها الأسبوع الأول من مارس/ آذار 2010 أن الأغنية، التى أدّتها المطربة شيرين بمناسبة عودة الرئيس من ألمانيا، وكتب كلماتها الشاعر أيمن بهجت قمر، ألحان تامر على وتوزيع زوج شيرين (تم إنجازها فى 48 ساعة بعد تكليف من وزير الإعلام أنس الفقى الاثنين الماضى)، ثم تمضى الصحيفة تقول "المطربة شيرين الموجودة حاليا فى لبنان أكّدت لـ"الأخبار" أنها شعرت بمسؤولية شديدة وفرحة كبيرة لاختيارها لأن تكون صوت كل المصريين للتعبير عن فرحتها فى أول مناسبة تغنى فيها للرئيس مبارك".
لنترك التخيّل ونذهب إلى الواقع هناك في بريطانيا، حيث يستعد الملك تشارلز الثالث لإقامة حفل أسطوري بقلعة ويندسور في مايو/ أيار المقبل لمناسبة تتويجه بالعرش اقترح أو تمنّى أن تغنّي فيه المطربة البريطانية الشهيرة أديل والمطرب إيد شيران، فكان الرد من الثاني بالاعتذار لأن لديه حفلًا غنائيًا في الولايات المتحدة قبل المناسبة الملكية بيوم، ولن يتمكّن من الحضور، على الرغم من أن الصحافة البريطانية نشرت أنه يستطيع الحضور لو أراد، بطائرة خاصة، كما فعلها سابقًا.
أما المطربة أديل فقد رفضت الغناء للملك، بالرغم من وجودها في بريطانيا، وعدم انشغالها بأية أنشطة فنية في فترة تتويج الملك .. فقط قالت لا، من دون أن تقدّم أسبابًا، لكنها تركت المجال للصحافة لكي تخمّن دوافع اتخاذها قرار الرفض بأن لديها موقفًا سلبيًا من الملك، فيما ذهب معجبوها إلى القول "إنها تعرف أنها ملكة إنجلترا الحقيقية"، كونها ملكة الغناء الأكثر جماهيرية وقيمة فنية برأي محبي غنائها.
ماذا جرى؟ هل أرعد الملك وأبرق وأرغى وأزبد وأوعز بأشدّ العقاب؟ هل خرجت الصحافة تتهم أديل بخيانة التاج البريطاني، والتنكّر للبلد الذي رباها وعلمها وصنع شهرتها؟ هل توعّدها أحدٌ بالانتقام؟ هل اختفت وابتلعها المجهول كما جرى مع المطرب المصري إيمان البحر درويش مثلًا؟ هل اختفت قسريًا وخرج أحدٌ من أسرتها يقول إنه أُدخلت مستشفىً ما، لا يذكر اسمه، للعلاج من أزمةٍ صحيةٍ خطيرة، أو أنه حبيس المنزل يعالج من صدمة نفسيةٍ ألمّت به، بعد أن سجّل غضبه من سياسات الزعيم في موضوع سد النهضة؟.
لم يحدُث شيءٌ من ذلك كله، ولم تجعل الصحافة من القصة موضوعًا مهمًا أو قضية وطنية شائكة، ملكٌ اختار ومطربةٌ رفضت الاختيار وانتهى الأمر.
لو كانت أديل فنانة مصرية وغنّت للزعيم، بناء على اختياره الشخصي، لكان لها محور، أو كوبري، أو محطّة مترو تحمل اسمها، ووجدت نفسها وأغنيتها مادّة مقرّرة على تلاميذ المدارس، ولتنافس المتنافسون عن إعداد أطروحاتٍ في عبقريتها الفريدة في الغناء للوطن وقائده، ثم تخرُج هي ببيانٍ إلى الأمة تقول فيه "جلالة الملك رجل بسيط ومتواضع، وفي الوقت نفسه، مهيب ومتديّن وصادق جدًا ولا يحب الشو، وكلامه يخرج من قلبه دايما. لذا احترمته الناس وأحببته جدا وهذه التفاصيل الإنسانية كانت مدخلي لتجسيد الشخصية بالشكل الذي ظهر في الأغنية". كما فعل ياسر جلال بعد تجسيد الزعيم على الشاشة.
تخيّل، مرة أخرى، لو أن فنانًا أو فنانة رفض الغناء في واحدةٍ من حفلات الرئيس المصري أو أدار وجهه في عرض أو تكليف بالقيام بتجسيد شخصية الزعيم في مسلسلٍ من بنات أفكاره وأحلامه، مسلسل "الاختيار" مثلًا، ماذا كان يمكن أن يكون مصير ياسر جلال، الممثل، لو اعتذر عن تجسيد شخصية ياسر جلال، الزعيم؟