احتلال أوكرانيا وإمكانية الحرب العالمية الثالثة

05 مارس 2022
+ الخط -

يراقب العالم الحرب في أوكرانيا. يريد الروس احتلال هذا البلد كاملا، والمقاومة الأوكرانية تحاول تأجيل ذلك. الفرق بين الجيش والمقاومة ومعها الجيش الأوكراني يقول إن روسيا سائرة نحو الاحتلال. الدعم العسكري الأطلسي ليس قادرا على دعم مستمر للمقاومة الأوكرانية. وعلى الرغم من كثرة الحدود بين دول أوروبا الشرقية وأوكرانيا، فإن روسيا، ومعها بيلاروسيا، مصرّتان على ذلك الاحتلال، وستُوقفان ذلك الدعم، أو تخفّفان من وصوله. لا يمكن إلّا تأييد حق الأوكرانيين في مقاومة الاحتلال؛ هكذا يجب تسميته، رغم الاستراتيجيات المتباينة بين الروس والأميركيين والأوروبيين بما يخص الضمانات الأمنية التي طلبها الروس ورفضتها الدول السابقة، ما دفع الروس نحو خيار الاحتلال والتهديد بالسلاح النووي.

ليست أوكرانيا الهدف من الاحتلال الروسي، إنما هو تشكيل نظام عالمي جديد، يكون للروس دور مهيمن فيه، وقد توسّعوا في جورجيا وكازاخستان والقرم، وعملوا على تطوير دولتهم بشكل كبير بدءا من عام 2000. الهدف الكبير هذا ترفضه الولايات المتحدة التي لا ترى روسيا إلّا دولة إقليمية بعد زوال الاتحاد السوفييتي. تخشى الإدارة الأميركية فعلياً الصين، والمواقف الغربية من الاحتلال تُواجَه بمواقفٍ من طراز أن روسيا ليست دولة عالمية وعليها الانكفاء، ولكن هل يمكن الاستمرار في مواقف كهذه، سيما بعد التهديد بالنووي، والإصرار على أخذ أوكرانيا وبأعلى الكلف البشرية والاقتصادية والعزلة السياسة. أميركا وأوروبا تتجهان نحو التصعيد، عبر دعم أوروبا الشرقية بالسلاح وبالمقاتلين، وتشديد العقوبات الاقتصادية، وربما الاستغناء نهائياً عن الطاقة الروسية، وعزلها مالياً بشكل كامل، وكذلك تشديد العقوبات على الدول المتحالفة مع روسيا. هذا تصعيدٌ خطير، يضع روسيا في الزاوية، وبعيداً عن التحليلات التي ترى أن بوتين "مالك" روسيا، وأن قرار الحرب يخصّه وحده. هذا كلام يتجاهل كل ما أشرنا إليه، ويتجاهل تهميش الغرب روسيا بعد المرحلة السوفييتية، وبالتالي الحرب والتوسّع والتهديد بالنووي هو خيار القيادة الروسية، ومن دون شك، لبوتين دور أساسي فيها.

ليست أوكرانيا الهدف من الاحتلال الروسي، إنما هو تشكيل نظام عالمي جديد، يكون للروس دور مهيمن فيه

مرّ أكثر من أسبوع على العدوان على أوكرانيا، وحتى الآن يؤكد قادة الغرب أنهم لن يتورّطوا بحربٍ مع روسيا، ولن يفرضوا حظراً جوياً على أوكرانيا، ولن يتدخلوا عسكرياً، وهذا يعني أن الحرب لن تخرج من أوكرانيا. وبالتالي، سيتعمق الخلاف بين الروس والأوكرانيين أكثر فأكثر، وقد تتحوّل أوكرانيا بالفعل إلى مستنقع.

روسيا الآن في ورطة كبيرة، وقد تحسم المعركة في كييف وتضع نظاماً جديداً، ولكن المقاومة هنا لن تتوقف أبداً، والغرب مصرٌّ على استنزافها؛ فالبلاد تُدمّر كل ساعة، وعدد الضحايا في ارتفاع، وهذا يعني أن على روسيا التفكير بأكثر من نظامٍ موالٍ، فهل هذا ممكن؟ إن تجربة بيلاروسيا، ودعم لوكاشينكو لا يشجّعان كثيراً، والتدخل الأخير في كازاخستان أيضاً يقول بهمجية القيادة الروسية، وسياساتها تتحدّد بشطب أية أفكار تخصّ الحريات والديمقراطية، أي عكس التجربة الأوكرانية ورغبة هذا الشعب بخيار الديمقراطية والاستقلال والانضمام للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.

أوكرانيا، كما سورية، إلى دمارٍ كبير، وإلى أزمة لجوءٍ واسعة نحو أوروبا، وإلى مستنقع حقيقي للروس، لم يعانوه في سورية

أوكرانيا، كما سورية، إلى دمارٍ كبير، وإلى أزمة لجوءٍ واسعة نحو أوروبا، وإلى مستنقع حقيقي للروس، لم يعانوه في سورية، وأوكرانيا ليست أفغانستان، فهي في قلب روسيا التي ستتضرّر بشكلٍ كبير من ذلك، ولكنها تنطلق، وقبل الحرب، من أن الخطر ليس في أوكرانيا، بل من حلف شمال الأطلسي. هذا الاعتبار، والتهديد بالنووي، سيضعان أوروبا وأميركا ضمن خيارات محدّدة: التفاوض مع روسيا، وإيجاد حل لمستقبل أوكرانيا ووفقاً لما يريده الروس، وبديمقراطية هامشية، والتخفيف من البنية التحتية للناتو، أو أن الحرب العالمية الثالثة واقعةٌ لا محالة. الخيارات هذه ستجبر أوروبا، الخاسرة أيضاً من الحرب الأوكرانية، ومن إيقاف موارد الطاقة إليها، وسواه، على أن تتخذ مسافة عن السياسات الأميركية؛ هي الآن، اتحدت تحت الهيمنة الأميركية، وحلف الناتو اشتدّ عوده بعد أن نعاه ترامب وماكرون. ومن الخطأ أن نغفل الخطوة الألمانية في تخصيص مائة مليار دولار لتطوير البنية العسكرية، ولكن حين تقع الحرب، ستكون المتضرّر الأكبر بالتأكيد، والآن ترى مصير أوكرانيا، سيما أن الروس لم يستخدموا بعد كل قوتهم العسكرية، وحين تصبح الحرب عالميةً، لن يتورّعوا عن ذلك.

روسيا المتألمة بقوة من التهميش الأميركي، والذي كان، كما السياسات الخاطئة للقيادة الروسية، من أسباب تفكيك العلاقات القوية بينها وبين الاتحاد الأوروبي، تجد نفسها مجبرةً على تهديد "الناتو" وأوروبا، ولن يقف جيشها في أوكرانيا، ولكنه أيضاً لن يتحرّك نحو أوروبا الشرقية أو دول البلطيق في اللحظة الراهنة. الآن، "الناتو" وروسيا يتقابلان عند حدود أوكرانيا، وإمكانية إشعال الحرب قائمة؛ فروسيا مستعدّة لها وتزداد عزلتها وحصارها، وأوروبا و"الناتو" يشحذان الأسلحة، ولكن هناك أيضاً نوافذ قوية للتفاوض، وهناك الصين، و"تشنّج" العلاقات الدبلوماسية، لن يعدم طرقاً للتفاوض بين الغرب وروسيا.

روسيا تتعثر في أوكرانيا، ولكنها ستحتلها، وشروطها على الطاولة إزاء تفكيك البنية التحتية لحلف الناتو في أوروبا الشرقية

الحرب على أوكرانيا، في قلب روسيا وأوروبا، حيث بدأت الحربان العالميتان السابقتان، وحيث الهيمنة على العالم، وحيث الدول الأكثر تطوّراً، وهذا يعني أن العالم، بعد احتلال أوكرانيا، لن يكون كسابقه. لقد أصبحت رغبة روسيا في نظامٍ عالميٍ جديد على طاولة الدول الأكثر هيمنة على العالم، وهي فرصةٌ أيضاً لها لتغيير قواعد الهيمنة الأميركية السابقة، وروسيا لن تكتفي بالمفاوضات من أجل مستقبل أوكرانيا. لم تعد خطوات روسيا بالتقدّم التدريجي نحو محيطها الأوراسي وفي سورية، والشرق الأوسط بعامة، تكفي، والصين التي ما تزال تحاول الهيمنة اقتصادياً، وترفض جرّها إلى تأزمٍ عسكري، بدأت أميركا بالإعداد له، عبر حلف أوكوس، لن تخذل روسيا على الرغم من اتخاذها موقف الحياد إزاء غزو روسيا.

الصين وروسيا الآن حليفان اقتصاديان كبيران، والصين بحاجة لها بسبب موارد الطاقة والصناعات العسكرية، وتتفقان في شكل الحكم الاستبدادي، ورغبة الصين في دعم روسيا لها بحقها في تايوان، وأن تكون قطباً عالمياً، وهناك دول تابعة لروسيا في العالم، وليست فقط كوبا وسورية وكوريا الشمالية وإريتريا وإيران.

روسيا تتعثر في أوكرانيا، ولكنها ستحتلها، وشروطها ما تزال على الطاولة إزاء تفكيك البنية التحتية لحلف الناتو في أوروبا الشرقية. وفي أوكرانيا تقوم بتدمير ممنهج لتلك البنية وللجيش الأوكراني. وبعد فرض العقوبات، سيكون رفعها من ضمن تلك الشروط؛ الوحدة الأوروبية الأميركية في حلف الناتو ولمواجهة روسيا ليس هو الرد المناسب، بل يؤجّج سباق التسلح، وربما الحرب، التي اختبرت نتائجها أوروبا جيداً؛ الخيارات أمام الروس والغرب والعالم أصبحت محدّدة، فهل يتّجه العالم نحو حرب عالمية ثالثة، أم نحو تعدّدية قطبية، أم أن الأخيرة غير ممكنة من دون الحرب؟