احتجاجات شعبية وضرورة معارضة سورية جديدة
تعدّدت أشكال الاحتجاجات في العام الذي انقضى (2022) في سورية، وتنوّعت بين رفضٍ للتقارب التركي مع النظام السوري، وهو ما شهدته مناطق سيطرة فصائل "الجيش الوطني"، ومناطق سيطرة هيئة تحرير الشام، واحتجاجات ضد الانهيار الاقتصادي في مناطق النظام، حيث لم تعد أغلبية مواطني سورية قادرة على العيش؛ فتحرّكت السويداء ومدن أخرى، وعطّل النظام ذاته بعض أعمال مؤسّسات الدولة، بسبب عدم قدرته على تأمين المحروقات لوسائط النقل، وتدنّت قيمة الأجور، وهذا اضطرّه، أخيراً، إلى صرف أجور إضافية لمرة واحدة، ليتفادى الغضب الشعبي.
تعدّى انهيار العملة عتبة الستة آلاف مقابل الدولار الواحد، يعني أن الأجور أصبحت لا تساوي أكثر من 20 دولاراً شهرياً، أي لا تفي بأبسط احتياجات المواطنين. وصدر قانون لمكافحة المخدّرات في الكونغرس الأميركي. وقبل ذلك، رفضت الولايات المتحدة حالات التطبيع مع النظام. وستكون مفاعيل القانون إغلاق منافذ النظام مع الدول المحيطة به أكثر فأكثر. لن ننشغل بالتسريبات التي تؤكّد "هروب" الشخصيات الرئيسة في النظام إلى الخارج في هذه المرحلة، فليس لها من مستند حقيقي، وكذلك القول إن إيران تلاحق رأس النظام، وهو متخفٍّ في قاعدة حميميم أيضاً.
ليست التطورات أعلاه مسبوقة، وهي تشير، على الرغم من توقف المعارك الواسعة ومنذ 2018، إلى أن النظام اكتمل تفسّخه الذاتي، بفعل آليات الفساد والنهب الناظمة له، وانغلاقه تجاه أيّة مبادراتٍ للإصلاح أو للحل السياسي منذ 2011، وليس فيه أيّة شخصيات قادرة على إيقاف التدهور، وإجراء الانقلاب العسكري. التطوّرات هذه جازمة لجهة المؤشّرات الواضحة على الانهيار في الأشهر المقبلة، لا سيما أن إيران وروسيا ليستا قادرتين على دعمه أو إيقافه على قدميه من جديد، وهل تعود الحياة للميت من أصله؟
قادت المعارضة الثورة إلى أسوأ الخيارات، وما زالت مستمرّة في انتهاج الحوار مع النظام
السؤال الذي سيفكّر به أي عاقلٍ الآن هو: ما الحل؟ لم يعد لدى النظام، الذي هو أداة بين كل من روسيا وإيران أي حلٍّ، أو مدخل نحوه، وربما فقط تحاول تركيا ذلك في الأشهر الأخيرة، ولكن لا يصلح العطّار ما أفسده النهب. ولكن، ما أحوال الطرف الآخر في الصراع، ونقصد المعارضة، والأدقّ المعارضات، فهل من أملٍ يُرتجى منها، وقد قادت الثورة إلى أسوأ الخيارات، وما زالت مستمرّة في انتهاج الحوار مع النظام عبر مسار أستانة والدول الضامنة (تركيا، روسيا، إيران)، واللجنة الدستورية، واتفاقيات خاصة بين الرئيسين الروسي بوتين والتركي أردوغان، والخضوع الكامل للسياسات التركية، الخاصة بالوضع الداخلي التركي، وكذلك بالوضع السوري برمته.
خيارات المعارضة تلك، أوضحت، وبعد الوصول إلى أستانة 19، والدستورية 8، أنّها كانت خاطئة بالكامل، والأسوأ أنّها رَفضت كل المناشدات الشعبية والاحتجاجات الرافضة لها، والمطالبة بإيقافها، وطالت الاحتجاجات التقارب التركي السوري. ومع ذلك، لم تهتم المعارضة، بكل مؤسساتها، بتلك الصرخات، واستمرّت في "انتهاج الحوار" والتبعية لتركيا؛ والأسوأ أنّها عطّلت ندوة الدوحة، التي عقدت في فبراير/ شباط الماضي، وتحت يافطة أنّها ستناقش هي أحوال المعارضة وستستجيب للمستجدّات، ولكنها همّشت البيان الذي صدر عنها. أهمية الندوة كانت في عدد الحضور وتنوّعه، وبالمسائل المطروحة حينها، وهي من أكبر الورش التي عُقِدت في السنوات السابقة لتدارس شؤون المعارضة، بينما بقية الورش، وعلى الرغم من ضرورتها وأهميتها لم تستطع تخطّي مشكلات المعارضة وانقساماتها، وظلّت تتحرّك تحت قيادة "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) ولصالحها، أو لصالح الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، وهكذا.
تقتضي التطوّرات ضرورة بروز معارضة جديدة وصلبة، وطرح مشروع وطني يتجاوز المعارضة القديمة
إذاً هناك عدم ملاحظة المعارضات التغيّرات الكبرى التي تتفاعل في سورية، مع خضوعها إمّا لتركيا أو لأميركا، وانتهاجها الحوار مع السلطة، والمشكلة أن الأخيرة رفضت ذلك بشكلٍ قاطع ومنذ 2011. ويُظهر غياب رغبة السلطة بالحوار الأزمة العميقة لخيارات المعارضة، وبالتالي، لماذا تستمر في سياساتها ذاتها؟ إنّها قضية تخصّ قادة تلك المعارضة، وتحوّلها إلى أدواتٍ لصالح هذه الدولة أو تلك، كما حال النظام مع روسيا وإيران.
مجدّداً، تقتضي التطورات أعلاه ضرورة بروز معارضة جديدة وصلبة، وطرح مشروع وطني يتجاوز المعارضة القديمة، والنظام ذاته؛ قلنا إن الأزمة الاقتصادية عنيفة، وليس من حلٍّ لها، والوضع الاجتماعي يتفاقم يومياً، وهناك احتجاجات، والنظام يعطّل مؤسسات الدولة. لقد هَجَرت أو هُجرت قيادات المعارضة والناشطين إلى خارج البلاد بعد 2011، وبالكاد، تجد بعض تلك القيادات في الداخل، وهي مكبّلة من الأجهزة الأمنية. وقطعاً لا يعوّل عليها بإنتاج معارضة جديدة، وقد حدث، وحاولت ذلك في السنوات الأخيرة عبر تجمّع "جود"، وفشلت بشكلٍ كامل. إذاً، لا خيار آخر لإنتاج معارضة جديدة إلّا خارج البلاد. تبعية "المجلس الوطني" و"الائتلاف" لتركيا أو دول الخليج تقول بضرورة أن تكون، الجديدة، في أوروبا، وبإبعاد كل الشخصيات التي كان لها دور كارثي في إنتاج معارضة لم تستطع تمثيل أحلام السوريين.
لا يمكن المصادرة على أيّة قوى أو شخصيات أو أفراد إلّا التي استَهلكت نفسها في المعارضات أعلاه، وكذلك في هيئة التنسيق الوطنية. وبالتالي، وترافقاً مع تأزّم الواقع والخطر الشديد من التقارب التركي مع النظام، وإعادة إنتاج الأخير، ولأن الأمر في غاية التعقيد، هناك ضرورة لبروز المعارضة الجديدة.
تقف أمام المعارضة أزماتٌ كبيرة، وترتبط بكل التعقيد الذي أصبحت عليه الأوضاع في سورية من احتلالات، وتشتّتٍ في الهوية
يقع على المعارضة هذه أن تترفّع عن عقلية الثأر أو الطائفية، وأيضاً عن سياساتٍ ليبرالية لا تستجيب لأوضاع السوريين والانهيار الحاصل في مؤسسات الدولة، وضرورة إعادة إصلاحها، وأن يكون لها وحدها صياغة الخطة الاقتصادية، وبإشراف القطاع العام للنهوض بأوضاع الاقتصاد وأحوال الناس. هذا ليس تفصيلاً، وهو ما يتم التبرّؤ منه من القوى السائدة في المعارضة، هذا أصل النهوض المستقبلي، ونقصد تبنّي رؤية اقتصادية تدعم الصناعة، والزراعة أولاً، وتأمين فرص عمل لملايين السوريين، وهي القطاعات الوحيدة القادرة على تأمينها، وضمن ذلك يجري إشراك القطاع الخاص، وبالخطة نفسها.
تقف أمام المعارضة أزماتٌ كبيرة، وترتبط بكل التعقيد الذي أصبحت عليه الأوضاع في سورية من احتلالات، وتشتّتٍ في الهوية، وخطاب طائفي أو قومي "مسعور" وإفقارٍ تعدى الـ 90%، وحروب طائفية ومجازر حدثت في المدينة والمنطقة الواحدة، وتقف أمامها أيضاً معارضة سابقة، فاسدة وتابعة، وطامحة لتكون أدوات الاحتلالات في أي حلٍّ سياسي.
هل تلتقط شخصيات المعارضة المستقلة خطورة اللحظة الراهنة، وتتحرّك بعيداً عن الارتهان، وتمنع تعفّن الوضع أكثر فأكثر! الآن "تعمل" تركيا من أجل إنقاذ النظام، وقد لا تنطلق من القرارات الدولية، بسبب ابتعادها عن أميركا، واقترابها من روسيا، وأيضاً قد تتمحور سياساتها في إطار اجتثاث تنظيم "قسد"، وتحجيم الدور الكردي على حدودها، وإعادة اللاجئين.
السوريون بحاجةٍ للعودة إلى بلداتهم ومدنهم، وهذا لا تحقّقه إلّا معارضة جديدة، تتبنّى خطاباً وطنياً والقرارات الدولية، ولا تخضع للدول والاحتلالات، وتقاتل في كل أروقة العالم من أجل انتشال سورية من التعفّن والتبعية للخارج، وإعادتها دولة لكل السوريين من غير المجرمين.