احتجاجات إيران بين تآكل الشرعية وإخفاق النظام

17 نوفمبر 2022
+ الخط -

ليست هبّة عابرة الاحتجاجات والمظاهرات التي تجتاح شوارع إيران، ولا هي فتنة، ولا مؤامرة خارجية كما اعتاد النظام الإيراني على وصف أي مظاهرات أو احتجاجات مناهضة له وللحكومة، بل هي احتجاجات شعبية ليست وليدة اليوم أو الأمس، وليست وليدة مقتل الشابة مهسا أميني، وإنّما نتاج سياسات داخلية قمعية متراكمة ومتكرّرة، وسياسات خارجية طائفية ومذهبية، أقل ما يمكن القول عنها إنّها شعوبية امتدّت على مدى ما يزيد من أربعة عقود من عمر الجمهورية في إيران.

على الرغم من أنّ الاحتجاجات التي تشهدها إيران منذ سبتمبر/ أيلول الفائت تبدو، ظاهرياً، وليدة مقتل الشابة العشرينية على يد قوات ما تسمّى شرطة الأخلاق بسبب "حجابها غير اللائق"، إلا أنّ المدقّق جيداً في الحالة الداخلية الإيرانية، وارتباطها الوثيق بوضع إيران في المنطقة، يدرك أنّ هناك عوامل ضمنية عديدة ساهمت في اندلاع تلك الاحتجاجات وامتدادها، أفقياً وعمودياً، لتشمل شرائح واسعة من المجتمع الإيراني، يطغى على تلك العوامل الطابعان الديني والاجتماعي، وتعكس بدورها اتساع نطاق حالة الغضب والاحتقان الجماهيري والشعور بالحرمان والظلم، وكذلك اتساع الفجوة ما بين النظام وهُويّته التي يحاول أن يفرضها من خلال القمع، والمجتمع الذي يتطلَّع إلى تحسين شروط حياته على المستويات الاجتماعية والثقافية والتحرّر من قيود النظام، خصوصاً فيما يتعلّق بفرض نمط معيّن من السلوك والمظهر على حياتهم الخاصة.

فاندلاع الاحتجاجات الإيرانية بشكل عفوي ومفاجئ ومن دون قيادات، وامتدادها إلى مختلف أنحاء البلاد، وتجاوزها الانتماءات العرقية والإثنية، يعكسُ حجم الاحتقان الداخلي في المجتمع الإيراني، ويقدّم أكبر دليل على أنّ الاستقرار الظاهر على السطح لا يعبّر عن حقيقة الرفض والسخط الذي يمور في البلاد، كما أنّ خلع نساء إيرانيات كثيرات الحجاب وحرقه في أثناء التظاهرات، وهتاف المتظاهرين والمحتجّين في الشوارع والجامعات بـ "الموت للدكتاتور" وتمزيق وحرق صور المرشد الأعلى، علي خامنئي، وقائد فيلق القدس السابق، قاسم سليماني، يعطي انطباعاً بوجود تحدٍّ منهم للسلطة واستهدافهم شرعية النظام ورموزه، كما أنّ وجود شريحة واسعة من المتظاهرين من جيل الشباب غير المحافظ الذي يمتلك معرفة جيدة بأساليب التغيير وشؤون الثورات، ويطمح إلى إحداث تغيير حقيقي عبر الخروج من تحت عباءة الحكم الثيوقراطي، يؤكد الاختلاف الجلي ما بين جيل (زد -Z) وجيل (إكس - X) الذي يشمل معظم الآباء من جيل التلفزيون والكتاب والكاسيت والسي دي، الذي بدأ دوره يتضاءل ويكاد يتلاشى.

رسالة الحركة الاحتجاجية في إيران، مع دخولها شهرها الثالث، تجاوزت تآكل شرعية النظام وتفاقم أزماته الهيكلية الداخلية إلى إخفاق النموذج الإيراني في الحكم

لا يجابه النظام الإيراني اليوم مكوّناً عرقياً واحداً أو شريحة اجتماعية واحدة، بل يجابه مختلف المكونات الاجتماعية ومختلف الشرائح الاجتماعية والأجيال، فهو يجابه شريحة واسعة يتقدّمها النساء أمّهات اليوم، والطالبات أمّهات الغد، وكذلك جيل الشباب (جيل زد) الذي ينتمي لثقافة عالمية منفتحة عابرة للحدود والقيود، الأمر الذي يضفي بُعداً عميقاً للاحتجاجات الحالية التي باتت تختصر صراعاً ما بين مجتمع يطمح إلى مزيد من الحرية والحياة الكريمة ونظام رافض أي تغيير ومصرّ على أيديولوجيته، ويعتبر المسّ بالحجاب، الذي يعتبر جزءاً من هوية نظامه، انتهاكاً لأحد أهم ثلاث ركائز أيديولوجية متبقية للنظام إلى جانب "الموت لأميركا" و"الموت لإسرائيل"، وتحدٍّ مباشرٍ لأيديولوجيته، وهو أمرٌ غير مسبوق في تاريخ النظام الإيراني ما بعد ثورة 1979.

وبالتالي، الاحتجاجات الحالية، وتلك التي سبقتها في أعوام 2019 و2018 و2017، ومن قبلها عام 2009 وغيره من التظاهرات والاحتجاجات، لا تُنبئ فقط عن الفشل السياسي الداخلي وتفاقم الأزمات الهيكلية الداخلية السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، بل تدلّل أيضاً على تآكل شرعية النظام، فمشهد حرق الجموع من النساء حجابهنّ، خلال التظاهرات الحالية، والذي يعدّ مشهداً جديداً كلياً على الجمهورية الإسلاميّة منذ فرض الحجاب عام 1979، يدلّل على فقدان النظام الإيراني شرعيته الشعبية والسياسية، والأكثر من ذلك يدلّل على إخفاق النموذج الإيراني في الحكم، والذي يحكم منذ أكثر من 40 عاماً باسم الثورة والإسلام، وإخفاق خطابه الديني والسياسي الذي استخدمه مع الأجيال الأكبر سناً، والذي لم يعد يجدي نفعاً مع الأجيال الحالية التي أظهرت قناعةً كبيرةً ورغبةً حقيقيةً بضرورة التغيير وهو الإخفاق الذي تظهره كثرة الاحتجاجات والتظاهرات، وكذلك سعي كثير من الإيرانيين إلى الهجرة إلى الخارج هرباً من الاستبداد السياسي، والتنكيل الأمني، والتقييد الاجتماعي، والتخلف التنموي، والوضع الاقتصادي المتدهور.

في حصيلة ما سبق، يمكن القول إنّ رسالة الحركة الاحتجاجية في إيران، مع دخولها شهرها الثالث، تجاوزت تآكل شرعية النظام وتفاقم أزماته الهيكلية الداخلية إلى إخفاق النموذج الإيراني في الحكم، وهذا ما يجعلها الاحتجاجات الأخطر التي يواجهها النظام الإيراني، والتي تهدّد استدامة سلطته المطلقة في إيران في حال استمرارها واكتسابها زخماً أقوى مع تكرار الدعوات لتظاهرات كبرى في الأيام والأسابيع القليلة المقبلة.