اتحاد المغرب العربي ... الأمل الموؤود
ربما كان الميدان الثقافي الذي جاء عليه ميثاق اتحاد المغرب العربي، من خلال التأكيد على "إقامة التعاون الرامي إلى تنمية التعليم، والحفاظ على القيم الروحية، وصيانة الهوية القومية العربية.. "، من أبرز الميادين التي نُظر إليها أنها استراتيجية وأساسية وذات مفعول في البناء المستقبلي الذي يمكن أن يتطوّر إليه "الاتحاد" بإرادة دوله ونظمها السياسية. الوجه الاستراتيجي في التصوّر أن التعليم قد يسهم في توحيد الأسس الفكرية الضامنة لمفهوم التواصل والتفاهم، وذلك من خلال القيم التي يمكن أن تلحّ عليها البرامج المشتركة المبنيّة على اقتناعٍ يركّز التقارب في أفق الإدماج، ويُفرز القيم الإيجابية من خلال الحوار، ويضع أمام الأجيال اللاحقة مسؤولياتٍ تستحقّ التضحية الجماعية لتدشين الوحدة المطلوبة. وإذا ما أضفنا إلى ذلك ما ذُكر عن "القيم الروحية"، والمقصود به الدين الإسلامي، لظهر لكل متّتبع أن التقاط هذا العنصر، وهو مُسَطّرٌ بالتأكيد في مختلف الدساتير المغاربية، لظهر، بوضوح، أن الهوية التي لحقت بهذا العنصر (العرب) تتكامل مع التصوّر الذي كان سائدا في الثقافة السياسية في ذلك الإبان، أعني به "الامتداد العرقي" الذي كان مؤكّدا في المنظورات القومية العربية قبل الحرب العالمية الثانية. والخلاصة هنا أن الامتداد الثقافي أريد به أن يؤسّس لمنظورٍ متقاربٍ في التوجّه العام لكل دولة: أي عملها في سبيل التعليم لمحاربة الجهل وتنمية القدرات الوطنية، والتركيز على الدين الذي يوحّد ارتباطها الروحي بمنظومة عقدية، والارتهان للقومية العربية بحثا عن الانسجام العرقي وتأكيدا له على حساب المطامح الأخرى.
ولو عدنا إلى الفترة التي تبلورت فيها فكرة "الاتحاد" في الدول المغاربية المتجاورة، وهي على ما هي عليه من انقسام واختلافِ نُظُمٍ، سوف نجد أن الفترة التي عجّلت، فيما يبدو، باتفاقٍ بين مَلكٍ وأربعة رؤساء منطلقا لبنائه في 17 فبراير/ شباط 1989 هي الفترة التي كانت قد مهدت لتحولات كبيرة على الصعيد الدولي، والأوروبي القريب على وجه الخصوص .. ربما كانت أقواها تأثيرا علامتان كبيرتان تمثلتا في سقوط الشيوعية وثورات أوروبا الشرقية، من ناحية، وترافق مع هذا السقوط المعارضة الشعبية لاستمرار حكم الحزب الواحد والنضال من أجل التغيير، من ناحية أخرى، الأمر الذي كان له على الصعيد الإيديولوجي وعلى مستوى الثقافة السياسية الأثر الفعّال في المجال الدولي، ومن خلال انعكاساته الفورية أيضا على بعض أنظمة الدول المغاربية التي كانت لها تجارب مشابهة سارت، من قبل، في ركاب التوجّه الساقط. من غير أن ننسى أن الدائرة انقفلت، كما هو معروف، بانهيار جدار برلين بعد ذلك بقليل (1990) فحملت رياحا أقوى لانهياراتٍ أشمل.
يفيدنا هذا للقول، أولا، إن تبلور مفهوم العولمة وذيوع تصوّرها، فضلا عن ارتباط ذلك باقتصاد السوق، كلها محدّدات وجهت الاقتصاديات العالمية وبرّرت تبلور النموذج الرأسمالي التطوري الحاسم الذي قوامه الاستغلال والهيمنة. ثانيا، إن الارتباط العضوي بين الاقتصاديات المغاربية والنظم الاقتصادية الأوروبية والفرنسية، بحكم التاريخ والمصالح المشتركة، على وجه الخصوص، حمل نخبا سياسية وسلطوية، وهي مصدر التأثير في تطوّراتٍ كثيرة، إلى الاهتمام بالنموذج المُرْتَجَى الساعي إلى بناء النموذج الإقليمي والفعل في التوجّهات "الدولتية" الجاهزة للتغلب على مختلف العوائق التي قد تعترض التطوّر في المستقبل المنظور.
كان للحدود الموروثة عن فترات الاحتلال الدور الأكبر في تأكيد أن الاستقلالات الوطنية، عملت بقوة على تأكيد ما ورثته من فترات التوسّع والاحتلال الفرنسية
غير أن فكرة "الاتحاد" التي ارتبطت بتطوّر "الوعي المغاربي" المبني على مصالح الدولة الوطنية، أصبحت منذ التدشين تقريبا محكومةً بما يعاكسها على طول الخط والتوجّه. يكفي النظر في الأهداف العامة للاتحاد/ ليدرك المرء أن النظم الحاكمة "أفلحت" أكثر في العمل بقوة ضد ما رسمه زعماؤها، والأجدر بالذكر أن العملية هذه تمّت رغم علمهم، من خلال الدراسات التي أعدّها المحلّلون، بالأهمية المستنتجة من الوقائع المغاربية في كل بلدٍ من حيث أهمية "التكامل الاقتصادي" بينها، والقدرة على تحقيق "الاكتفاء الذاتي" لمعظم الحاجيات، وأن عدد سكان بلدانهم يفوق المائة مليون نسمة وهكذا..
لقد تمّت عن هذه العملية بدون تبرير قد يُفْهِمُ شعوب المنطقة بالعوامل أو بالظروف التي حالت دون تطور فكرة "الاتحاد"، أو اعترضت تنفيذها. وهكذا رأينا كيف تحوّل هدف "تمتين أواصر الأخوة" إلى فُرقة تناحرية بتأثير من التطوّرات الخاصة على صعيد كل بلد. وهو ما حصل بصورة أعنف فيما يرجع إلى "فتح الحدود" الذي امتزج بالكراهية الشديدة المتبادلة بين المغرب والجزائر مثلا. ومثل ذلك يقال عن "صيانة استقلال كل دولة" و"تحقيق التنمية الصناعية والزراعية وغيرها" ... إلخ. وبذلك انهارت مجموع التصوّرات الضامنة لقيام "الاتحاد" انطلاقا من الحاجة إليه في أفقٍ كان يتبدّى واضحا لبروز تكتّل واعد قادر على تحقيق الاستقلال الخاص، وإنْ يكن، بطبيعة الحال، في دائرة التكتّلات الكبرى المهيمنة في نطاق العولمة. واعتقادي أن التفكير في هذه الوضعية، من منظور نقدي، يقود المحلل إلى تفسير ذلك، ولو بعد مرور أزيد من ثلاثة عقود، على ضوء أربعة عوامل متداخلة، أعرضها كما يلي:
أولا، لم تنعم المجتمعات المغاربية بالاختيار الديمقراطي الحرّ، وسادت لفترات "اختيارات" ذات توجّه استبدادي تحت سيطرة حكم الحزب الوحيد أو التوجه "الأوتوقراطي" المعارض للأماني الشعبية في التحرّر والانعتاق والعيش الكريم. وقد ترتبت عن هذا صراعات اجتماعية مختلفة، تميزت أغلبها بالعنف الشديد، وبه استبدّت المؤسّسات العسكرية بزمام السلطات القائمة فحوّلت نُظُمَها ومؤسّساتها إلى ثكناتٍ للمراقبة والتطويع وآليات للتحكم المطلق في الأوضاع العامة في المجتمع.
لم تنعم المجتمعات المغاربية بالاختيار الديمقراطي الحرّ، وسادت لفترات "اختيارات" ذات توجّه استبدادي تحت سيطرة حكم الحزب الوحيد أو التوجه "الأوتوقراطي" المعارض للأماني الشعبية
ثانيا، ثم كان للحدود الموروثة عن فترات الاحتلال الدور الأكبر في تأكيد أن الاستقلالات الوطنية، وهي تسوياتٌ سياسية في قالب من التحرير، عملت بقوة على تأكيد ما ورثته من فترات التوسّع والاحتلال الفرنسية، فأخرج منظّروها التاريخ الخاص المكتوب عن الوطن إلى واجهة التحدّيات والمنافسات دونما اعتبار لتحولات العنصر الجغرافي في الزمن. لذا أصبحت الحدود غنيمة، واستقرّت الدولة الوطنية على مفهوم إيديولوجي ومجالي يعتبرها من عناصر السيادة التي تفرض الحماية والحرب إنْ انتُهِكت.
ثالثا، ثم كان لقضية الصحراء الدور الأكبر في الحكم على "الاتحاد" بالجمود المطلق: فبالإضافة إلى أن المغرب والجزائر يشكلان الثقل الأكبر في بناء "الاتحاد"، فإن التنافس بين البلدين حوَّل العلاقة إلى حربٍ غير معلنة للقضاء على مختلف الآمال التي ارتضاها كل منهما لتطوّره الخاص. لقد كشفت قضية الصحراء، كنزاع إقليمي، أن جوهر الصراع بين المغرب والجزائر كامنٌ في التنافس وأدواته مرتبطة بالهيمنة، وما قيام "بوليساريو" منذ ما قبل "الاتحاد" إلا لتحقيق ذلك على وجهٍ من الوجوه.
رابعا، كان للتأكيد على "القيم الروحية" التي يجب أن تُوَثّق عرى الاتحاد انطلاقا من الدين الإسلامي، (المنظور الديني)، ومعه إغفال العنصر الأمازيغي الهُوياتي، بعض الأثر النسبي في التصوّر العام: لما في المنظور الديني من مُصَادرة بحكم ارتباطه بالمطلق، وبما في المطلق من تعميمٍ يعارض مختلف الخصوصيات الاجتماعية أو العقدية أو القومية، ثم إنَّ الأمازيغيين يمثلون في الجسم المغاربي أزيد من 40%، ويخترقون جميع المجتمعات المغاربية. فلم يكن هناك من موجبٍ مدنيٍّ لتوظيف البعد الديني في المجال السياسي والعمل الديموقراطي. وفي المقابل، وقع الحكم على فئات عريضة من المغاربيين بالوجود في الهامش، وهو ما جعل "العقل الأمازيغي"، فيما يبدو، يتفتق عن مطالب هوياتية متعارضة مع المفهوم القومي (العرب) الذي استند إليه ميثاق "الاتحاد".