إيران وسياسة الطريق الواحد
على الرغم من غبطتها من رحيل الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، عن الحكم، ومجيء الرئيس جو بايدن، إلا أن القيادة الإيرانية ما زالت تمارس السياسة نفسها الخاصة بالتلويح بتقليص التزاماتها بالاتفاق النووي، والتي كان جديدها تصريح المتحدث باسم الحكومة الإيرانية، علي ربيعي، أن بلاده ستوقف العمل بالبروتوكول الإضافي من هذا الاتفاق في 21 فبراير/ شباط من العام الحالي، إذا لم تلتزم بقية الأطراف بتعهداتها ويتم إلغاء العقوبات.
ترسل طهران، إذن، رسائلها إلى الرئيس بايدن، بضرورة "استثمار الفرصة المتاحة لبناء الثقة"، وتشدّد على أن هذه الفرصة "محدودة وليست إلى الأبد". وفي المقابل، يقوم وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، بالتحرك متعدّد الاتجاهات، لحشد التأييد والتعاون في سبيل إبراز قضية بلاده واحدة من أهم القضايا الدولية، وخصوصاً على مستوى الشرق الأوسط، فهو من خلال زيارته موسكو، يوم 26 يناير/ كانون الثاني الحالي، ركّز على مسألتين جوهريتين: أن بلاده ستعود إلى تنفيذ التزاماتها بالاتفاق النووي حال رفعت واشنطن عقوباتها، والتلويح بقدرة بلاده على استمرار كسب دعم الأصدقاء (الحلفاء)، بدلالة تصريح وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، "إن بعض اللاعبين الدوليين يحاولون الحد من التعاون المتبادل بين موسكو وطهران بطرق غير مشروعة، مستغلين القيود أحادية الجانب التي تتعارض مع القانون الدولي".
تتعجّل إيران أميركا لرفع العقوبات، مقابل عودتها إلى الالتزام بكامل بنود الاتفاقية النووية
في الجانب الآخر من الأزمة الإيرانية، يتحرّك ظريف، والمخولون من الطاقمين، الحكومي والنيابي، بإطلاق تصريحات باتجاه المنطقة، الأكثر تحسّساً من الأنشطة الإيرانية، سواءً ما تعلّق منها بالمشروع النووي أم بترسانة الصواريخ البالستية، أو من خلال التنظيمات الولائية التي تمثل خطراً داخلياً دائماً على أمنها، أي منطقة الخليج العربي، وتحديداً السعودية التي تعتبر طهران الخطر الأكبر على أمن المنطقة واستقرارها، لأسباب عديدة، يتعلق بعضها بما ذكر أعلاه، ويرتبط الآخر، إلى حد كبير، بالمشروع الإيراني الخاص بتصدير الثورة، وهو ما يعني الخطر العقائدي غير المباشر النتائج، والذي تمثله حركات وتنظيمات داخل دول الخليج، وفي اليمن والعراق، بما يشكّل طوقاً لا منفذ فيه إلا باتجاه إسرائيل.
تتعجّل إيران أميركا لرفع العقوبات، مقابل عودتها إلى الالتزام بكامل بنود الاتفاقية النووية، وسبب هذا الاستعجال أن الإدارة الإيرانية تعلم، وبدقة، أن مرور الوقت من دون أن يتخذ الرئيس بايدن قراراتٍ، ولو تدريجية، برفع هذه العقوبات، سيعني، في النهاية، رضوخه لسيل من المعلومات الاستخبارية، وكمّ هائل من ضغوط اللوبيات داخل مؤسسة الحكم في الولايات المتحدة، إضافة إلى التزامات واشنطن تجاه أمن دول الخليج العربي وإسرائيل وسلامتهما، أي أنه (سيطلب) من إيران وليس (سيعطي) إيران، سيطلب التزاماتٍ وضماناتٍ تبدّد مخاوف هذه الدول، وضوابط تحكم قدرات إيران الصاروخية، والنووية بالطبع.
كان تحرّك إيران، وما زال، باتجاه واحد، فهي تعلن عن إنتاج (وتصنيع) معدّات عسكرية كبيرة، وعن اقترابها من إنتاج معدن اليورانيوم، بما يعني قرب امتلاكها سلاحاً نووياً، وهو ما أثار غضب (وتهديد) المتردّدين في الاتحاد الأوروبي من مسألة العقوبات على طهران، وأبرزهم المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا، وتحولهم إلى منتقدين بشدة هذا التوجه الإيراني الخطير، والذي بات يسعى إلى خلط الأوراق بشكل متعدّد الوجهات، لكنه يفضي، في النهاية، إلى الطريق الواحد الذي تريده إيران. ومن هنا، ليست مصادفة أبداً أن يتزامن التفجيران الإرهابيان في بغداد مع بداية تسلّم بايدن مقاليد الحكم في واشنطن، ومع إشاراتٍ عدة تشير، من دون دلالات قاطعة، إلى أن تعامله مع السعودية سيكون جافاً بعض الشيء، لتكرّس إيران، من جديد، فرضية أن راعية التشدد "الإرهاب" السُني في المنطقة هي الرياض؛ من خلال ترويج أن الانتحاريين من حملة الجنسية السعودية (ما تبيّن بطلانه لاحقاً)، وبالتالي تزيد من الهوة "المفترضة" بينه وبين الإدارة السعودية.
تريد إيران كل شيء في طريقها ذي الاتجاه الواحد: رفع العقوبات، والإبقاء على الهيمنة من خلال وكلائها في دول عربية عدة
الطريق ذو الاتجاه الواحد أيضاً يبدو جلياً مع العربية السعودية، حيث تؤكد طهران، على لسان المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، سعيد خطيب زاده، أنها "منفتحة على الحوار مع السعودية، لكن بشرط ابتعادها عن العنف وإهمال الأمن الإقليمي والتعاون مع القوى خارج المنطقة (الولايات المتحدة). وفي مراجعة تصريح وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، أن إصلاح العلاقة مع السعودية كان من أولى القضايا التي بحثها، بعد توليه حقيبة الخارجية، مع قائد فيلق القدس الراحل في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، يكون من الواضح حجم الارتباط بين سياسات الدولة الإيرانية الخارجية وهيمنة فكر الحرس الثوري الإيراني وقدرته عليها. وعليه، فإن موقف السعودية، بحسب تصريح ظريف ذاته أنه أبلغ وزير الخارجية السعودي الأسبق، سعود الفيصل، عام 2013، باستعداد طهران للحوار مع السعودية، بمشاركة قاسم سليماني، حول العراق وسورية والبحرين ولبنان واليمن، "لكنه رد علينا بأنه لا علاقة لكم بالعالم العربي". وفي هذا التصريح دلالات لا تقبل الشك عن الطرف الذي يعلنها صراحة التدخل بشؤون الإقليم الأمنية، والتي رد عليها الفيصل بقوله ذاك.
تريد إيران كل شيء في طريقها ذي الاتجاه الواحد: رفع العقوبات، والإبقاء على الهيمنة من خلال وكلائها في دول عربية عدة، كالعراق واليمن وسورية ولبنان، وتغيّر سلوك دول الخليج العربي ومواقفها لصالحها مقابل إطفاء حرب اليمن، والاعتراف بها قوة إقليمية أولى في المنطقة. وفي النهاية، تعامل دول العالم المتقاطعة معها حالياً، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا على هذا الأساس. وترتكز طهران، في توجهها هذا، ربما، على مقولة تاريخية للإمبراطور المغولي، جِنكيز خَانْ (1165-1227): ثمّة قوة كبيرة تجمع العدوين: مصالحهما.