إيران والخليج بين التطبيع والتصعيد
شهدت المنطقة العربية، منذ بداية العام، موجة من خطوات التصالح السياسي، في مقدمتها مدّ السعودية، التي أصبحت أقل ثقة في النوايا الأميركية، يدها لمصافحة إيران. ووفقاً لهذا، جرى إعلان استعادة التبادل الدبلوماسي بين البلدين، ما أنهى سنوات من الجفاء والعداء البارد، لتأتي زيارة وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، طهران في يونيو/ حزيران الماضي بمثابة فتح صفحة جديدة مع البلد الذي ظلّ عقودا يمثل تهديداً. نظر فاعلون في المنطقة كثيرون إلى هذه الخطوة بترحاب، آملين أن تكون المنطقة قد دخلت في مرحلة جديدة من التهدئة تنتهي فيها دوّامة التآمر وعهود الحروب بالوكالة، خصوصا ما يتعلق بالدعم الإيراني لمليشيات الحوثي اليمنية. وقد سبق هذا الاتجاه نحو التهدئة توجه في إدارة بايدن نحو تخفيض التوتر مع إيران، وهو ما أعاد إلى الأذهان تحليلاتٍ كانت تذهب إلى أن الأميركيين ليسوا جادّين في قمع المشروع النووي الإيراني، وأن كل ما كان يطفو على السطح من توترات كان مجرّد تصعيد متحكم به، ولا يمكن أن يصل في أي حال إلى حافّة الحرب.
يمكن أن نأخذ ذلك النوع من التحليل التآمري على محمل الجد، فربما يكون لدى الإدارات الأميركية المتعاقبة إحساس بأهمية وجود إيران دولة شيعية قوية في محيط سني لإيجاد بعض التوازن الجيوسياسي. لكن هذا يجب ألا ينسينا أن الولايات المتحدة لم تكن تستطيع فعل شيء، فالجميع يعلم أنها لا ترغب في تكرار مآسي التدخل العسكري، خصوصا بعد انسحابها المخزي من أفغانستان.
تظهر الولايات المتحدة اليوم بكل ما تمتلك من قوة وانتشار، عاجزة، ليس فقط فيما يتعلق بالمسألة النووية الإيرانية التي لم تستطع حلها لا بالتفاوض غير المباشر، ولا بسياسة العقوبات، وإنما أيضاً إزاء كل النزاعات الدولية، وهو ما يجعل حلفاءها في المنطقة، وفي أكثر من مكان، يتساءلون عما إذا كان بإمكانها أن تتدخّل لحمايتهم.
يبدو أن تجربة الأعوام الماضية دفعت الطرفين، وبشكل خاص، الطرف الأميركي، إلى الاقتناع بأنه لا بديل عن التفاوض مع إيران
في مقابل العجز الأميركي والانشغال الأوروبي بالأزمة الأوكرانية وتداعياتها، بدأت إيران تتصرّف بلا اكتراث، على طريقة شخص لم يعد لديه ما يخسره. ذلك ليس فقط على مستوى وقف التعاون مع الوكالة النووية ومواصلة العمل بشكل خالٍ من الشفافية، ولكن أيضاً عبر متابعة دعم أذرعها العسكرية في المنطقة وتحدّي الغرب عبر توريد طائرات درون إلى روسيا.
وفر التطبيع الخليجي مع إيران ونقلها من خانة العدو إلى خانة الصديق المحتمل إمكانيةً للتهدئة تدفع إلى تخفيف التوتر ومحاولة التركيز على ما يجمع دول المنطقة. تزامن التطبيع الدبلوماسي مع السعودية مع تطبيع آخر مع الإمارات، التي استقبلت في إبريل/ نيسان الماضي أول سفير إيراني بعد انقطاع استمرّ ست سنوات. لم يكن ذلك كله بعيداً عن المسار، الذي ابتدرته الولايات المتحدة عبر مباحثاتٍ غير مباشرة وشبه سرّية مع الإيرانيين.
لم تكن دول الخليج بعيدة عن هذه المباحثات، فقد جاءت برعاية دول وسيطة ومسهلة، من أبرزها قطر وعُمان، اللتان عملتا على فتح خطوط للتواصل بين الجانبين، بالاستفادة من علاقاتهما المشتركة وما يحظيان به من مقبولية. كان الهدف الأساسي هو الوصول إلى اتفاق مرضٍٍ وقادرٍ على حفظ ماء وجه البلدين، اللذين قرّرا في وقت سابق أنه لا مكان للتفاوض أو التراجع عن المواقف المتصلبة. كان مهماً ألا يبدو الأمر كأنه تنازل من أحد الأطراف، أو انتصار لأحدهما على آخر. يبدو أن تجربة الأعوام الماضية دفعت الطرفين، وبشكل خاص، الطرف الأميركي، إلى الاقتناع بأنه لا بديل عن التفاوض، سواء من أجل الوصول إلى هدف تقييد البرنامج النووي أو للمساعدة في إطلاق سراح ثلاثة محتجزين أميركيين، من أصل إيراني، تتهمهم طهران بالتجسّس، إضافة إلى ملفّ آخر متعلق بضابط الاستخبارات الأميركي السابق، روبرت ليفنسون، والمختفي منذ العام 2007.
تعمد إيران إلى احتجاز سفن وناقلات نفط دولية بين فينة وأخرى بدعوى خرق قانون البحار
وفق تقرير لشبكة سي إن إن الإخبارية الأميركية نشر قبل أيام، كانت المفاوضات غير المباشرة، التي استمرّت نحو عامين في الدوحة، من دون أن تشمل لقاءات مباشرة بين الطرفين، تركّز على موضوع المعتقلين الأميركيين. خلص التفاوض إلى موافقة إيرانية مبدئية بهذا الصدد شريطة الإفراج عن أموال إيرانية مجمدّة تقدر بسبعة مليارات دولار، وهو ما قبله الطرف الأميركي. بانتظار التأكّد من الإفراج عن هذه المبالغ، شرع الإيرانيون في نقل السجناء إلى منازل للإقامة الجبرية، في خطوة أولى يفترض أن تقود إلى طلاق سراحهم.
يبدو ذلك كله إيجابياً، وكأن إيران عادت لتكون جاراً سلمياً وطبيعياً، لكن واقع الحال، للأسف، غير ذلك، فبخلاف السياسة الإيرانية الإقليمية، التي لا يبدو عليها التغيير، تظهر قضايا، مثل أمن الملاحة في الخليج، لتعكّر أجواء التفاهمات الجديدة، حيث تعمد إيران إلى احتجاز سفن وناقلات نفط دولية بين فينة وأخرى، بدعوى خرق قانون البحار.
لا يقتصر الأمر على ذلك، بل تظهر مستجدّات من قبيل ما حدث من افتعال أزمة مع كل من السعودية والكويت بشأن حقل الدرّة النفطي، الذي يتقاسمه البلدان، والذي تدّعي إيران أن جزءاً منه يقع داخل مياهها الإقليمية، ما يجعلها تمتلك حقّ التنقيب فيه. إيران لم تكتف بالادعاء، بل قال مسؤولوها إنهم سيشرعون قريباً في أعمال التنقيب، وهو ما أكّده قول المدير التنفيذي لشركة النفط الوطنية في إيران، محسن مهر، إن الشركة جاهزة لعمليات الحفر، ما اعتبرته الكويت والسعودية تعدّياً غير مقبول. المفارقة أن الإيرانيين أثاروا هذه القضية التي يدركون أنها إشكالية، بسبب عدم اكتمال ترسيم الحدود مع الكويت، بالتزامن مع مسار التهدئة وإجراءات تبادل السفراء، ما يعني أن هدف الطيّ الكامل للأزمات ما يزال بعيد المنال.