إنه الشتاء في أوروبا

22 أكتوبر 2022
+ الخط -

لم تكن أوروبا بمثل هذه الحال المضطربة، أقلّه منذ ثمانينيات القرن الماضي، أو حتى منذ الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، بالحد الأقصى. قد يكون شتاؤها الآتي الأبرد في العقود الأخيرة، وغير مسبوق بالنسبة للأجيال التي لم تشهد انقطاعاً للطاقة، بتشعّباتها من كهرباء وتدفئة وتشغيل. والإرهاصات التي تفرزها النزاعات الداخلية، الناجمة عن التضخّم وارتفاع الأسعار خصوصاً، في فرنسا وبريطانيا، جزء صغير ممّا ينتظر القارّة الأوروبية في الأشهر المقبلة، ستبدو فيه الاحتجاجات اليونانية بسبب أزمة أثينا المالية منذ أكثر من عقد مثل لعبة أطفال عتيقة.

دائماً ما يتطرّق كثيرون إلى الحديث عن "دور أميركي في تدمير العلاقات بين روسيا وأوروبا"، لكنهم في المقابل لا يقدّمون نموذجاً تحرّرياً للأوروبيين عن الروس. بمعنى آخر: إما تقبلون بالأميركي القابع خلف الأطلسي بموازاة تدمير القارّة القديمة، أو تقبلون بالروسي القريب لأسباب طاقوية، مهما بلغ توغّله في دول الجوار، تحت مختلف المسمّيات، والقضاء على نزعات الحريات والليبيرالية والديمقراطية وحقوق الإنسان.

في العنوان العريض، تحكم الواقعية هذا العالم. من كان ليظنّ مثلاً أن الصينيين سيخضعون لزيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، جزيرة تايوان في الصيف الماضي، والاكتفاء برفع مستوى التحضيرات العسكرية، لا القيام بغزو سريع؟ لبكين حساباتٌ اقتصاديةٌ واسعة النطاق، لا تستلزم إطاحتها عبر غزوٍ سيكون ناجحاً ميدانياً، لكنه مدمّر سياسياً واقتصادياً. من كان ليعتقد أن الإيرانيين، الذين سعوا إلى تشبيك العلاقات مع الصين وروسيا، واظبوا على تقديم الاقتراحات، وترك الأبواب مفتوحة من أجل إتمام اتفاق نووي مع الأميركيين، فلو كانت بكين وموسكو كافيتين لطهران، لتخلت الأخيرة عن مفاوضات فيينا منذ مدة طويلة. من كان ليظنّ أن الأميركيين سيتفاهمون مع حركة طالبان في أفغانستان، ويفتحون الأبواب لمناقشة الحوثيين في اليمن، ضمن "واقعية" فاقعة لليانكيز؟ لولا مصلحةٍ ما في زوايا هذا الحراك؟

هذا في الواقعية، التي بدأت أوروبا تخرُج منها بالقوة، بصورة أقرب إلى الانسلاخ، عبر التخلي عن الغاز الروسي، والاعتماد على مصادر أخرى في العالم وتنويعها. السبب اليوم هو أوكرانيا، لكنه لم يكن ولن يكون السبب الأوحد، فروسيا، بسلوكها الحالي، لا تنوي التصرّف مع أوروبا كما تفعل مع الصين مثلاً. في العلاقة بين موسكو وبكين، تبدو الأولى مقتنعةً بأن الثانية ندٌّ لها، وهو ما سمح بتمرير الشروط المتعلقة بتوريد الطاقة الروسية وفقاً للرغبة الصينية. ولا يتعلق الأمر بالاجتياح الروسي لأوكرانيا، بل يعود إلى مايو/ أيار 2014، حين وقّعت موسكو وبكين اتفاقاً ينصّ على مدّ الأولى الثانية بالغاز لـ30 عاماً بمبلغ يصل إلى 400 مليار دولار. لم تضع الصين نفسها تحت رحمة روسيا، بل واظبت على تنويع مصادرها الطاقوية، عكس أوروبا. وهو ما يقلّل من التأثير السياسي الروسي على صنع القرار الصيني.

في المقابل، طالما دفعت روسيا نفسها إلى الإمساك بالقرار الأوروبي، عبر دعم بعض الأحزاب اليمينية المتطرّفة اليوم، بصورة مشابهة لدعم السوفييت سابقاً الأحزاب اليسارية الأوروبية. غير أن فشل الحسابات الروسية مرتبط بعدم فهم حقيقة الأوروبيين أنفسهم. اليمين الأوروبي قادر على أن يكون "صديقاً" لروسيا، لكنه من غير الوارد القبول بتسلّط الكرملين، لأسبابٍ متعلقة بالأيديولوجيا القومية لأنصار اليمين، المتطرّف منه والوسطي. زعيمة إيطاليا الجديدة، جيورجيا ميلوني، كانت واضحة في هذا الصدد، بتشديدها على دعم أوكرانيا والمعسكر الغربي في مواجهة روسيا. أما اليسار الأوروبي، فإنه بات أكثر واقعيةً في مقاربة المقارنة بين روسيا وأميركا، ففي أسوأ الأحوال، يتم اختيار الأقلّ سوءاً. وروسيا هنا ليست مفضّلة.

ستمرّ أوروبا بمعمودية نارٍ مليئةٍ بالأزمات في الأشهر القليلة المقبلة، وستتصدّر الأخبار العالمية، غير أنه مع حلول الربيع المقبل، ستترسّخ "واقعية" أوروبا بالخروج من الظلّ الروسي، وتسريع عملية تنويع مصادر الطاقة، والنجاة عقوداً جديدة.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".