إنهم لا يعتذرون

31 اغسطس 2022

(كورت كراتش)

+ الخط -

جاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الجزائر، أخيراً، وغادر، تاركاً وراءه سحباً من دخان الأسئلة والانتقادات، والجدل بشأن فواتير الإرث الاستعماري التي جرى سدادها، أو تلك التي ينبغي سدادها، أو غيرها مما لا يعترف به الجناة ويتملّصون من المسؤولية عنه، بذرائع عديدة، في مقدمتها أنّ الأمم ليست مسؤولةً عن جرائم ارتكبها أسلافها الغابرون، وأنّ الاعتذار سيفتح صندوق باندورا.
قال ماكرون ذلك صراحة في الجزائر، وهو يقف عند مقبرة ساندا كروز ببولوغين، بحثاً عن رفات أجداده، من المستعمرين الأوائل، معلناً "نحن أبناء اليوم، والماضي ليس اختيارنا ويجب تجاوز التاريخ". ويجسّد هذا الموقف من الرئيس الفرنسي منتهى التناقض والازدواجية في التفكير، لأنّ اللحظة التي يعلن فيه براءته من ميراث جرائم الأجداد بحقّ الشعب الجزائري هي اللحظة ذاتها التي يقف فيها باحترام وإجلال أمام رفات الأجداد، تكريماً لهم. تماماً كما حدث مع صدور قانون فرنسي مثير للجدل عن "الدور الإيجابي للاستعمار" في عام 2005! لكنّ الإنكار لا يمحو الذاكرة.

يجب ألّا يتوقع أحد منهم الاعتذار، فهم لن يعتذروا لك إلا إذا ناضلتَ بجدّيةٍ ومثابرةٍ من أجل إجبارهم على الاعتذار

للشعوب كما للأفراد ذاكرة، وهي حاملة الهوية وملامح الذات. يفقد مرضى ألزهايمر مع الذاكرة ماهيتهم، وتصبح صفحتهم في الحياة بيضاء كلحظة الموت. يموت الأحياء وتبقى بعدهم الذاكرة يتوارثها الأجيال، عصية على الوأد، عنيدة على الاحتواء، تشقى وتعذب كما تبهج وتسعد، فهي تاريخ السابقين الذي ينتقل إلى المستقبليين، وحين تكون الذكرى أليمة فهي تحرّض صاحبها إما على الثأر من الجاني أو قبول اعتذاره.
باختصار، يتبرأ ماكرون من الميراث الدامي للأسلاف، ويدين الاستعمار بكلمات فضفاضة، كما فعل سابقوه من رؤساء فرنسا، لكنّه غير مستعد للاعتذار عما اقترفه بلده من فظائع وأهوال وجرائم ضد الإنسانية، بل يبدو، في زيارته الجزائر، وكأنه يبحث عن لحظةٍ خارج الزمان والمكان، تأتي له بتهدئة ترضي جميع الأطراف.
كان بعضهم ينتظر أن يعتذر ماكرون للجزائر، وفاتهم أن الاستعمار لا يعتذر، وإلا لكانت ملكة بريطانيا اعتذرت للهنود عما اقترفته بريطانيا العظمى من أهوال، أو لكانت اعتذرت للفلسطينيين، أو على الأقل لم تضع على رأس دبلوماسيتها وزيرة خارجية، ومرشّحة الآن لرئاسة الحكومة، صهيونية الهوى، ومنحازة كلياً للجاني الإسرائيلي ضد الضحية الفلسطيني الذي ينكرون عليه حقه في النضال والمقاومة والتحرّر من الظلم. وبالتالي، يجب ألّا يتوقع أحد منهم الاعتذار، فهم لن يعتذروا لك إلا إذا ناضلتَ بجدّيةٍ ومثابرةٍ من أجل إجبارهم على الاعتذار، فكيف يعتذر الجاني للمجنيّ عليه وهو مسجون في زنزانته، مقيد بأصفاد الظلم والهوان.

الاعتذار لن يوقف نزيف الذاكرة، ولكنه بالتأكيد يمهّد لبداية جديدة

زار بابا الفاتيكان، في الأسبوع الأخير من الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، كندا، واعتبر بعضهم زيارته حجاً لتكفير الذنوب، حيث قدّم في أثنائها اعتذاراً علنياً للسكان الأصليين الذين انتزعت الحكومة الكندية آلافاً من أطفالهم، وأودعتهم رغماً عنهم مدارس الكنائس الكاثوليكية، بهدف دمج هؤلاء في المجتمع الأبيض ومحو ثقافتهم الأصلية، واستخدم في هذه المدارس عنفٌ وحشيٌ واغتصاب جنسي وتجويع، ما أدّى إلى وفاة ستة آلاف تلميذ على الأقل بين نهاية القرن التاسع عشر وتسعينيات القرن الماضي. وكانت الحكومة الهندية، في عام 2008، قد اعتذرت بشكل رسمي عن إنشاء هذه المدارس التي أقيمت "لقتل الهندي في قلب الطفل"، ودفعت مليارات الدولارات تعويضات لتلاميذ سابقين. وتم الكشف عن مقابر جماعية لأطفالٍ في محيط هذه المدارس التي أُغلقت، وكان لذلك أثر مدوٍّ في كندا، وعادت الذاكرة لتنزف. وهذه المرّة، كان للسكان الأصليين صوتٌ مسموع، وطالبت مظاهراتٌ بالقصاص، وسافر قادةٌ للسكان الأصليين إلى الفاتيكان، لمطالبة البابا باعتذار رسمي، وهو ما فعله البابا في حج تكفير الذنوب.
هناك من يقول إن الاعتذار لن يوقف نزيف الذاكرة، ولكنه بالتأكيد يمهّد لبداية جديدة. والاعتذار ليس سهلاً، فهو يعني الندم والإقرار بالمسؤولية والاستعداد لتقديم تعويضٍ عما فات. اعتذرت ألمانيا لليهود عن الهولوكوست، وقدّمت تعويضات ضخمة. واعتذرت اليابان لكوريا الجنوبية عما اقترفته في أثناء استعمارها كوريا من مآسٍ. واعتذرت هولندا لإندونيسيا. وقدّمت دول استعمارية اعتذارات لدول استعمرتها في بادرة لاستعادة الثقة بين الجاني والمجني عليه، وبدء صفحة جديدة من العلاقات الدولية. وحده الإنسان العربي لا يعتذر له أحد من مستعمريه وجلاديه، وحين يكون هذا العربي فلسطينياً، فإنه يعاقَب كلما طالب باعتذار، أو مارس حقّه في التخلص من نتاج الخطيئة التاريخية التي صنعها الذين لا يعرفون الاعتذار، بمقاومةٍ مشروعةٍ يعرف أنّها أداته الوحيدة ليجبر فيها الجاني على إعادة نظر قضيته، ونقض حكمها السابق الظالم، لكنّه بدلاً من ذلك يجد من يحاول أن يتهمه ظلماً من جديد وكأنّه محكوم عليه بالظلم الأبدي.