إنقاذ ما يمكن إنقاذه

25 فبراير 2023

(وسام الجزائري)

+ الخط -

من الظواهر البشرية الملفتة أن الكثافة السكانية تزداد في البلاد التي تعاني من الفقر أو الحروب أو غيرهما من المشكلات المجتمعية والاقتصادية المرتبطة بالسياسة. فعدا عن أن الأزمات الجمعية لمجتمعٍ ما تزيد ارتباط البشر بالغيب، بوصفه المرتجى البديل عن الواقع، وبوصف الثواب على الصبر واحتمال الشدائد موجوداً في ذلك الغيب، والغيب يرتّبه الدين، والأديان السماوية كلها تحضّ على التناسل وتبارك الكثرة ... عدا عن ذلك، في التناسل نوع من المقاومة ضد الموت فقراً وجوعاً وقتلاً... إلخ، وفي الحقيقة، يتعلّق الأمر بالجنس بوصفه المتعة الوحيدة المتاحة والتي لا تتطلّب (في مجتمعاتنا) سوى وجود شهود على الزواج أو ورقة إثبات من مرجعية قانونية أو دينية، تحلّل لرجل وامرأة المعاشرة، ونتائج المعاشرة غالباً ما تكون طفلاً كل عام، طالما المرأة لم تزل قادرةً على الإنجاب، في غياب كل طرق التوعية الجنسية والوقاية من الحمل. ومع الاعتقاد أن المولود يحمل رزقه معه، فإننا سنكون في مواجهة عدد كبير جداً من الأطفال الذين سوف ينمون في أوضاع لا تحترم حقوق الطفولة، ولا تكترث بها أصلاً، وفي مناخ كبير من الحرمان والفاقة التي سوف تزيد من عدد الأطفال المحرومين من التعليم والداخلين في مافيات عمالة الأطفال والاستغلال الجنسي والتسوّل وما إلى ذلك.

يقول الخبراء إن مئات الآلاف من الأطفال باتوا في حكم المشرّدين إثر كارثة الزلزال الأخيرة، وعدد كبير منهم أصبحوا أيتاماً. ورغم أن رصد العدد الحقيقي لضحايا هذه الكارثة من موتى وأحياء، وإدراك نتائجها السلبية على العالم والمتغيّرات المجتمعية التي ستخلفها، سوف يحتاج إلى سنواتٍ طويلة مقبلة، ولكن يمكن الآن معرفة مصير هؤلاء الأطفال، خصوصاً السوريين منهم، الذين معظمهم، في الأساس، أبناء كارثة سابقة وطويلة، ويعانون أصلاً من حرمانهم من كل حقوق الطفولة التي سنّتها قوانين الأمم المتحدة، وكانوا يعيشون في ظروف اجتماعية واقتصادية بالغة السوء، منفيين خارج طفولتهم وخارج حقهم الإنساني في العيش الكريم بكل أساسياته.

لا يمكن التعويل على أية مؤسسة سورية رسمية (لا تابعة للنظام ولا تابعة لمعارضته)، في البحث عن حلول سريعة لمحاولة احتواء هؤلاء الأطفال، قبل انضمامهم إلى سابقيهم من المشرّدين، ذلك أن الطرفين غضّا النظر، طوال السنوات السابقة، عن أمر خطير كهذا، فالنظام الذي كان السبب وراء ملايين الأطفال السوريين المشرّدين لن يكترث لمصير مائة ألف آخرين، والمعارضة التي عجزت عن تأمين حياة لائقة لسكّان المناطق التي تحت حكمها وفشلت حتى في إنشاء مدارس ومراكز تعليمية (غير دينية) لن تفعل هذا الآن، خصوصاً أن لدى داعمها التركي من أثر الكارثة ما يجعله يتجاهل تماماً أثرها على سوريين كان لهم دور أيضاً في وضعهم الحالي، مع ما يتسرّب من أخبار عن ممارساتٍ عنصريةٍ ضد السوريين، حتى في موضوع الإغاثة والنجدة والإنقاذ.

قد يكون من أهم الخطط المستقبلية لمنظمات المجتمع المدني العاملة في الشأن السوري التوعية الجنسية ومحاولة شرح خطر الكثافة السكانية على مجتمعات غير مؤهلة لوجستياً للطفولة؛ ومحاولة شرح الموقف القيمي والمسؤولية الأخلاقية المترتّبة على إنجاب الأطفال من دون وجود مناخ عام ملائم، لن يكون هذا أمراً سهلاً، خصوصاً مع الاعتراضات الدينية على ذلك، سواء من المؤسّسة الدينية أو من مجرّد مزايدين على العاملين في هذا الشأن، واتهامهم بمخالفة معايير الدين ومعاداته، تنفيذاً لأجندات الغرب (كالعادة)، لا بد من السعي إلى ذلك، رغم كل الصعوبات، ولا بدّ من التذكير دائماً بضرورة هذا؛ لكن ثمّة أولوية راهنة حالياً تتعلق بمحاولة خلق وابتكار آليات للتعامل مع الأطفال ممن يتّمهم أو شرّدهم الزلزال، لن تنفع دعوات إنشاء مياتم مع الذاكرة الجمعية للعربية للمياتم، وما يحدث فيها من كوارث أخلاقية وإنسانية، خصوصاً أن معايير مؤسّسات كهذه غير متوفرة في بلادنا، لا من حيث التأهيل البشري، ولا من حيث التأهيل المادي واللوجستي، ولا من حيث الدعم الرسمي.

قد يكون أحد الحلول هو السعي والضغط على المجتمع الدولي لتأمين أماكن في البلدان المتقدّمة لهؤلاء الأطفال، وإبعادهم عن هذه المنطقة المنكوبة بطبيعتها وبحكّامها، ربما بهذا يساهم المجتمع الدولي في تأهيل كوادر سورية مستقبلية ترفد حضارة البشر بما هو مفيد، فلا ينقص السوريين وأطفالهم الذكاء، ما ينقصُهم المناخ الصحي لاستثماره.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.