إعدام رميًا بالمسلسل .. خنقًا بالغاز
كان سباق التكهنات مشتعلًا على أشدّه، وقطار التوقعات ينطلق بأقصى سرعته في اتجاه تلك الانفراجة التاريخية في ملف الحريات والمعتقلين، على ضوء المصالحة التركية المصرية. بعضهم قطع بأن الطبخة تمّت في لقاءات سرية في لندن على مواقد غاز المتوسط، وأن التسوية تمضي في اتجاه أن تفتح الزنازين بطونها، وتلقي ما فيها إلى البراح، بل هناك من راح يردّد الأوهام التاريخية المعلبة عن صفقة جديدة بين عسكر السيسي وإخوان أردوغان على حساب الثورة.
في الوقت ذاته، كان قطار المكارثية يسير بسرعته الجنونية المعتادة في الاتجاه العكسي، حيث كانت حلقات المسلسل التلفزيوني الرمضاني تواصل التصويب على "العدو الإخواني"، وتعدم أي فرصة للمجتمع المصري في استعادة حالة إنسانية تسمح بتعايش بين مكوناته، من دون استئصال طرفٍ حتى تعيش الأطراف الأخرى، فيما كان وزير النقل، أحد جنرالات دولة السيسي، يردّد على مسامع أعضاء ما يسمّى "مجلس النواب" مقاطع من المسلسل، هو يبرّر تعدّد كوارث قطارات السكك الحديدة في عهده السعيد، حيث حسم كل الأمور ووجد الحل الوحيد لإيقاف هذه الكوارث: استئصال وإبادة الإخوان من هيئات الدولة المصرية ومرافقها.
في هذه اللحظة، أفاق الجميع على دماء جديدة، تراق بتنفيذ أحكام إعدام جماعية بحق عدد كبير من المواطنين فيما عرفت بقضية كرداسة، القضية التي كانت حاضرة في مسلسل "الاختيار"، حيث بدا وكأن قرار تنفيذ الإعدام صادر من صنّاع الدراما، في هذا التوقيت الرمضاني بالذات.
كل الدنيا تعلم مأساوية حالة القضاء والعدالة في مصر، وتدرك بالبداهة أن القضاء المصري جرى تسييسه، ليس نسبة إلى السياسة، وإنما إلى السيسي شخصيًا، حيث جاء ترتيبه 110 من بين 113 دولة في مؤشّر النزاهة، وكل الهيئات الدولية والمنظمات المعنية بالعدالة وحقوق الإنسان أهدرت أطنانًا من حبر البيانات الخاصة بغياب النزاهة والشفافية في مصر. وعلى الرغم من ذلك، مر خبر إعدام هذا العدد من المصريين من دون تعليق ممن كانوا يعلقون طوال الوقت.
انتظرت أن أسمع تصريحات من الرئيس التركي بعد الإعدامات، وبالفعل لم يتأخر، إذ أدلى الرجل بتصريحاتٍ شديدة الوضوح في انحيازها للعدالة وحقوق الإنسان والدفاع عن حرمة دماء الأبرياء، حيث قرأت ما يلي: "حسب وكالة الصحافة الفرنسية، فقد انتقد الرئيس التركي بشدة نظيره المصري عبد الفتاح السيسي بعد إعدام مصر تسعة أشخاص الأسبوع الماضي، مشيرا إلى أنه يرفض التحدّث مع "شخصٍ مثله". وقال أردوغان، في مقابلة مع القناتين التلفزيونيتين التركييتين، سي إن إن - تورك وكانال دي، "قتلوا تسعة أشخاص مؤخرا. هذا أمر لا يمكننا قبوله"، مضيفًا "بكل تأكيد، سيُقال لنا إن هذا قرار القضاء. لكن القضاء والانتخابات وكل هذه الأمور هناك بلا معنى. هناك نظام استبدادي، بل حتى شمولي". وأضاف "أجيب الآن الأشخاص الذين يتساءلون عن السبب الذي يجعل طيب أردوغان لا يتكلم مع السيسي، لأن هناك وسطاء يأتون إلى هنا أحيانا، لكنني لن أتحدّث إطلاقا مع شخص مثله".
فيما قرأت على موقع قناة الجزيرة كالتالي: "وصف الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الإعدامات التي يقوم بها النظام المصري بحق معارضيه بـ"الجريمة ضد الإنسانية". وأوضح أردوغان أن نظام (الرئيس عبد الفتاح) السيسي منذ تسلّمه السلطة في مصر أعدم 42 شخصا، كان آخرهم تسعة شبان، وهذا لا يمكن قبوله". وتساءل الرئيس التركي، في مقابلة أجرتها معه قناتا سي.أن.أن تورك و"كنال دي الإخباريتان التركيتان مساء السبت: "أين الغرب من هذا؟ هل تسمعون صوت الغرب؟ وهل فعل أي شيء حيال هذا الأمر؟" ونقل موقع CNN عن وكالة أنباء الأناضول التركية الرسمية على لسان أردوغان قوله: "سنظهر مجدّدا قوة الديمقراطية التركية للسياسيين المنافقين في أوروبا الذين اصطفوا في الطابور لمصافحة يد الانقلابيين في مصر يوم إعدامهم تسعة شبان".
وكان أردوغان قد تطرّق لموضوع الحضور الأوروبي لقمة شرم الشيخ، في تصريحات سابقة، حيث قال: "رغم أنّ الإعدام محظور في الاتحاد الأوروبي، فكيف تستجيبون لدعوة السيسي (لحضور مؤتمر شرم الشيخ)؟ فهو مرتكب مجزرة .. لو كنتم مخلصين حقيقة، ولو كنتم ديمقراطيين لما لبّيتم دعوة دولة تعمل آلية الإعدام بهذا الشكل. فأنتم لم تشعروا في قلوبكم بألم الشباب الذين أعدموا (بمصر)، لا سيما التسعة الذين أعدموا أخيرا".
أما مستشار الرئيس التركي، ياسين أقطاي، فقد وصف الأمر بالإبادة، وذلك في تغريدتين عبر حسابه الشخصي بموقع التواصل الاجتماعي، تويتر، حيث استنكر مستشار أردوغان الصمت الأوروبي تجاه تلك الانتهاكات التي يرتكبها رئيس سلطة الانقلاب، عبد الفتاح السيسي، قائلا: "العالم يستمر بسكوته على هذه المجازر، فرنسا فرحة بـ 30 اتفاقية عقدتها مع السيسي، وأوروبا لا لسان ولا عين لها". وأضاف: "يوجد في سجون السيسي عشرات الآلاف من جمال خاشقجي، إنه يقتلهم دون مراعاة حقوقهم ودون تطبيق العدالة"، مستطردا: "الذين لم يستطيع قتلهم في ميدان رابعة، اليوم يقتلهم ويطبق عليهم حكم الاعدام في سجونه".
وقفت مندهشًا أمام قوة هذه التصريحات وانحيازها الواضح للعدل والإنصاف والإنسانية، وفرادتها في وضع المبادئ الديمقراطية والقيم الإنسانية المحترمة فوق المصالح السياسية والتجارية المؤقتة، وقبل أن أهتف "يحيا العدل" اكتشفت أن تاريخ النشر هو 19 فبراير/ شباط 2019، وأن التصريحات قديمة تخص تنفيذ أحكام الإعدام في قضية النائب العام، وتذكّرت أننا الآن في زمن باتت فيه نقطة الغاز أغلى من قطرة الدم.