إسرائيل وإيران وهبَّةُ القدس
مع تواصل محادثات فيينا، تزداد المخاوف الإسرائيلية من أن تفضي إلى صفقة نووية جديدة بين الولايات المتحدة وإيران، يكون من مخرجاتها رفع العقوبات الاقتصادية عن هذه الأخيرة، ومنحها هامشا لتوسيع نفوذها الإقليمي، وتطوير برنامجها النووي، مع ما لذلك من تداعيات على ''الأمن القومي الإسرائيلي'' في المدى البعيد. ومن ثم، يبدو التصعيد في القدس المحتلة، نهاية الأسبوع الماضي، محاولةً من إسرائيل لإفشال هذه المحادثات، من خلال مواجهة جديدة مع الفلسطينيين، في مسعى إلى خلط مزيد من الأوراق في المنطقة. وما يرجح ذلك ما عبر عنه سابقاً الرئيس الأميركي، جو بايدن، بشأن دعمه ''حلّ الدولتين'' لتسوية القضية الفلسطينية، وهو ما لم يلقَ قبولاً لدى قادة الكيان الصهيوني.
ضمن هذا السياق، تبدو أحداث القدس بمثابة رسالة إسرائيلية دالّة إلى بايدن، مفادها بأنّ إسرائيل لن تكون معنيةً بأيّ صفقة أميركية - إيرانية تُعيد واشنطن إلى الاتفاق النووي الموقع في 2015، وأنّه في وسعها تصعيد التوتر في المنطقة في ظلّ تحكّمها بجزء غير يسير من أوراق الصراع، لا سيما بعدما غدت تتمتع بغطاء سياسي عربي غير مسبوق، بعد اتفاقات التطبيع التي عقدتها مع أكثر من دولة عربية.
في المقابل، تتزايد مخاوف الإدارة الأميركية من أن يؤدّي نجاح المفاوضات مع الجانب الإيراني إلى فقدان إسرائيل أعصابها، والمغامرة بمهاجمة إيران بشكلٍ يدفع هذه الأخيرة إلى الخروج عن السقف الذي وضعته لنفسها إزاء الضربات التي نفذتها إسرائيل ضد أهدافٍ لها في العراق وسورية والبحر الأحمر. وعلى الرغم من أنّ المناوشات بين الطرفين، أخيراً، بقيت تحت السيطرة، فإنّ ذلك لا يمنع من أن تتطوّر مستقبلاً إلى مواجهةٍ شاملةٍ قد تأتي على الأخضر واليابس في المنطقة، فنجاح الدبلوماسية الإيرانية في انتزاع اتفاق جديد يرفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، ولا يقبر، في الوقت نفسه، طموحاتها النووية، قد يتزامن مع هجوم خاطف تنفذه إسرائيل على المنشآت النووية الإيرانية، بشكل يذكّر بهجومها على مفاعل تموز العراقي في 1981.
تخشى الولايات المتحدة من أن تترسّخ القناعة، أكثر، لدى قادة إسرائيل بأنّ القوة الإيرانية باتت تشكل مصدر تهديد حيوي لها، يمكن أن تفضي إلى تعديل، وإن كان نسبيا، في ميزان القوى في المنطقة، وهو ما يعني، ضمن المنظور الأميركي، احتمال أن يخرج التوتر بين الطرفين عن السيطرة، وبالتالي زيادة أعباء الولايات المتحدة، وهي التي تواجه تحدّيات استراتيجية جسيمة، في مقدمتها الصعود الاقتصادي الصيني، وتمدّدُ النفوذ الروسي في أكثر من منطقة. ولعلّ هذه التحديات تُعزّز احتمال توصل واشنطن إلى صفقة متوازنة مع طهران، ستوسّع، بحسب إسرائيل، هامش المناورة أمام إيران والتنظيمات الحليفة لها في المنطقة.
التصعيد الإسرائيلي في القدس، وإن كان يكرس سياسات التهويد والاستيطان إزاء المدينة، يندرج، أكثر، ضمن حسابات إقليمية ترتبط بصراع القوة التي تخوضه إسرائيل في مواجهة المارد الإيراني. وهي الحسابات التي أعاد الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، جدولتها بإقراره صفقة القرن التي اعترف فيها بالقدس عاصمة أبدية للكيان الصهيوني، في ضربٍ سافرٍ للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. وقد جاءت اتفاقات التطبيع الموقعة مع دول عربية لتشرعن هذه الحسابات، وتسهم في إيجاد الصيغ الكفيلة بترجمتها على أرض الواقع. هذا من دون إغفال الصراع السعودي - الإيراني الذي بات أحد الروافد المغذّية للرفض الإسرائيلي إحياء الاتفاق النووي الإيراني.
من المرجّح أن تفتح محادثات فيينا ثغرة في جدار أزمة الملف النووي، غير أنّ مخاطر هذه الثغرة تكمن في ما قد تحمله من انفراج سياسي بين واشنطن وطهران، سيخيم بظلاله على الإقليم، ولو إلى حين، كما حدث في اتفاق 2015. ولذلك، تراهن إسرائيل على وصول هذه المحادثات إلى الباب المسدود، ما سيمنحها مسوّغاتٍ لأيّ هجوم عسكري تشنه على إيران مستقبلاً.