إذا لم يكن هذا تطبيعاً فماذا يكون؟
لا يُعرَف بعد كيف تدير السعودية مفاوضاتها مع الأميركيين بشأن الاتفاق الدفاعي المقترح والتطبيع مع إسرائيل، وما إذا كانت هناك استراتيجية سعودية واضحة تحكم هذه المفاوضات أم لا، لكن ما يتسرّب يُريب، وجديده أخيرا تقرير نشرته وكالة رويترز للأنباء، استند إلى ثلاثة مصادر إقليمية، ويفيد بأن الرياض خفّضت سقوفها المعلنة على نحو غير مفهوم، ولا يليق بمكانتها الفريدة في المنطقة والعالم.
بدايةً، فصلت القضية الفلسطينية عن التطبيع، وما بدا أنها شروط مسبقة ومشروعة، مثل التطبيع مقابل التزام إسرائيل بالمبادرة العربية للسلام، تراجع إلى تحسين شروط حياة الفلسطينيين، وقيام حكومة نتنياهو ببعض الإجراءات الشكلية. وإذا صحّ هذا فإنه يضرّ بالرياض طرفا مفاوضا، وهو ما تفعله للأسف على أرض الواقع، فلم يعد التطبيع مع إسرائيل منفصلاً عن القضية فقط، بل أصبح يسبق المفاوضات نفسها أو يتقدّم في موازاتها، فالرياض استقبلت وزيرين إسرائيليين في الأسبوع الماضي، كما استقبلت الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول) وفداً إسرائيلياً للمشاركة في اجتماعات لليونسكو، وقبل ذلك، في نهاية أغسطس/ آب، استقبلت ركّاب طائرة إسرائيلية هبطت اضطرارياً في مطار جدّة. وإذا كان ثمة ما يستوقف في سياق هذا الماراثون التطبيعي، فهو تذكير المراقب العربي بأن هناك اتحاداً دولياً للبريد العالمي، وأنه عقد أحد مؤتمراته في الرياض بمشاركة وزير الاتصالات الإسرائيلي، شلومو كارعي، فإذا كانت هذه من مفاعيل مؤتمر لاتحاد البريد العالمي، فماذا نقول لو قرّر الأمين العام للأمم المتحدة عقد دورة استثنائية للجمعية العامة للأمم المتحدة في الرياض؟ هل كانت السعودية سترفض حضور نتنياهو وكامل فريقه الوزاري، بل وأعضاء الكنيست وقادة الجيش إذا أرادوا المشاركة؟
يُحيلنا ما حدث ويحدُث إلى تحذير العاهل الأردني، عبد الله الثاني، في كلمة ألقاها في مؤتمر عقد على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة أخيرا في نيويورك، فأنت "لا يمكنك القفز بالمظلة فوق الفلسطينيين للتعامل مع العرب"، ورسالة الرجل يمكن قراءتها على أكثر من وجه، فهي ليست انتقاداً قاسياً ومحقّاً لاستراتيجية نتنياهو القائمة على السلام مقابل السلام، بل ربما للسياسة السعودية (وقبلها الإماراتية والبحرينية) التي بدأت بالقفز فعلياً من فوق الفلسطينيين وحقوقهم، إضافة إلى القفز من فوق مبادرة أقرّتها السعودية بنفسها للحلّ، وهدفها من ذلك كله التوصّل إلى اتفاق دفاعي مع الولايات المتحدة.
وانظر ماذا يحدُث، عندما تغيب استراتيجيات التفاوض الحقيقية التي لا تحتفظ بأوراق التفاوض القوية إلى آخر لحظة، لحسم الموقف لصالحها. وفق ما يتسرّب من التقارير الإخبارية على الأقل، ونتمنى ألا يكون صحيحاً، فصلت الرياض التطبيع عن القضية الفلسطينية، بل شرعت به بشكل متسارع، ثم قامت بأمرٍ شبيهٍ إزاء الاتفاق الدفاعي المحتمل، فقد رفعت السقف في البداية، وطالبت ببرنامج نووي بالموازاة مع الاتفاق، قبل أن تكتشف أن طرح الملفّين معاً مضرّ بها تفاوضياً، فنحّت البرنامج النووي جانباً إلى حين، وانفتحت على فكرة تقديم تنازلاتٍ مؤلمة عن مطالبها الأولى بشأنه، على أمل تحسين شروطها التفاوضية بشأن الاتفاق الدفاعي. هذا التراجع وعدم تحديد الأولويات عرّضها لضغوط متزايدة، وساهم في تخفيض سقف مطالبها في ملفّات التفاوض مجتمعة، وانتهى الأمر بتخفيض الولايات المتحدة سقف المطالب والتوقّعات السعودية إزاء الاتفاق الدفاعي "المحتمل"، من وضعٍ شبيهٍ بمنظومة دفاع حلف شمال الأطلسي كما كانت تطالب السعودية، إلى ما هو أقل من الاتفاقات الأميركية الدفاعية مع اليابان وكوريا الجنوبية، أي أن التفاوض قد يصل إلى وضع يساوي وضع البحرين، وحتى في هذه الحالة فقد يكون تفاهماً أمنياً، وليس اتفاقاً ملزماً يحظى بموافقة الكونغرس، كأنك يا أبا زيد ما غزيت.
يعيدنا هذا كله إلى السؤال الأول، فماذا تريد السعودية بالضبط؟ وهل يستحقّ تفاهمٌ دفاعيٌّ مع واشنطن تنازلاتٍ ثقيلةٍ من دولة تتمتع برأسمال رمزي نادر وفريد في المنطقة والعالم؟ ليست السعودية من يحتاج إلى التفاوض، بل نتنياهو وبايدن، وكلُّ منهما في أسوأ أوضاعه، مقارنة مع السعودية التي تتمتع بوضعٍ أقوى، يُفترض معه أن تفرض الشروط وتتمسّك بها، لكن ما تحتاجه قبل ذلك أن تعرف ماذا تريد بالضبط، وملاءمة ذلك لاحتياجاتها الفعلية ومكانتها الفريدة وأوراق قوتها، وسوى ذلك فإنها ستظلّ عُرضةً للضغوط لتقديم التنازلات.