إدريس الخوري يتذكّر منى السعودي
هناك، في مقالةٍ صحافيةٍ له، ضمّها في كتابه الرائق "فم مزدوج" (دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 2009)، يكتب القاص المغربي، إدريس الخوري، عن جلوسِه، والشاعر محمد الأشعري، مع أطفالٍ تلاميذ، في نشاطٍ ضمن مهرجان الرباط الفني والثقافي، تحدّث كل منهما أمامهم عن الكتابة وكيفيّتها، بأسلوبٍ بسيطٍ ومباشر، وكان الأطفال يُنصتون باهتمام وانتباه، ثم طُلِب منهم أن يكتبوا ما يروجُ في أدمغتهم (الإسفنجية بوصفه)، ففعلوا. "كان كلٌّ منهم يكتب خواطر مثيرةً واسترجاعات ومشاهدات، في لغةٍ لا تشبه بعضها، انسيابيةٍ لا أثر فيها للحشو". وتاليا، جُمعت تلك "النصوص"، أملا في أن تُنشر مستقلةً في كرّاس (لم تنشر). ويفيد الخوري إن هذه التجربة ذكّرته بتجربة الرسامة منى السعودي، عندما نشرت كتاب "شهادة الأطفال في زمن الحرب". و"في هذا الكتاب، برسومه البريئة وكتاباته، أرّخ فلسطينيون لمأساة الإبادة الوحشية، إبادة المخيمات وإبادة الذاكرة الفلسطينية". ..
هذا لافتٌ. يستدعي الكاتب، وهو من المغرب الأقصى، من باله، في العام 2004 ربما (المقالة غير مؤرّخة في الكتاب)، وهو يستنفر مخيلات أطفالٍ من بلده، ليكتبوا ما يأتي إلى مدارِكهم، كتابا صدر، بالعربية والانجليزية، في بيروت (منشورات مواقف) في 1970، نادرا (أو مفقودا)، ضمّ رسوما اختيرت من بين آلافٍ أنجزها أطفالٌ فلسطينيون (بين خمس سنوات و14 سنة) في مخيم البقعة للاجئين الفلسطينيين في الأردن، أمضَت بينهم منى السعودي شهورا (من سبتمبر/ أيلول 1968 إلى يونيو/ حزيران 1969)، في تجربةٍ وصفتها بأنها غنيةً في "إعطاء الأطفال مجالا للتعبير عن كنوز فنية، وقدراتٍ إبداعية مدهشة". وفي محاورة صحافية معها عتيقة (1969)، يخبرنا عنها محمود الزيباوي في "المدن"، تقول إنها رأت الأطفال الذين اختبروا "عذاباً تصغر أمامه طاقة الرجال على الاحتمال"، فأعطتهم أوراقاً وأقلاماً، وطلبت منهم أن يرسموا، ولم تحاول أن توجّههم، إذ تصوّرت "أنهم سوف يعبّرون بقوّةٍ ووضوحٍ عن مآسيهم".
توفيّا، القاص المغربي الرفيع حقا، الزوبعة في وصف صديقنا نجيب العوفي، الأسبوع الماضي عن 83 عاما، قبل نهارٍ من وفاة النحاتة والرسّامة والشاعرة، الأردنية، العالمية حقا، عن 77 عاما. التباعد بين مشاغل اثنيهما الإبداعية بيّن. ولمّا جمعتهما مصادفة الرحيل إلى دار البقاء، فإنهما، أصلا، يلتقيان في أفقٍ إنسانيٍّ وثقافيٍّ مشترك، ويجتمعان على إحساسٍ بالألم الفلسطيني أيضا. ومن دلائل على هذا أن "أبّا ادريس"، لمّا أراد مشابهةً بين ما صنع أطفالٌ مغاربةٌ قدّامه من كتاباتٍ جاءت بها خيالاتُهم عفو الخاطر، لم يقدَح في ذهنه سوى ما صنعه أطفالٌ فلسطينيون من رسومٍ قبل نحو أربعة عقود قدّام منى السعودي. .. هل وقع "شهادة الأطفال في زمن الحرب" بين يديه في الدار البيضاء إبّان صدوره في بيروت، أم قرأ عنه، وظلّ في خاطره؟ واردٌ أن يكون قد اطّلع عليه، وربما اقتناه، فمكتبات الدار البيضاء تحرص، منذ ما قبل تلك الأعوام، على توفير إصدارات المشرق (بيروت والقاهرة خصوصا) فيها، بل يُخطِرنا إدريس الخوري، في واحدةٍ من مقالات "فم مزدوج" عن مكتبةٍ في الدار البيضاء كانت لعائلةٍ لبنانية. ومعلومٌ أن الشباب المغربي (وغيره) كان ينشدّ إلى كتبٍ عن فلسطين وعن تجارب مثقفيها ومناضليها وإبداعات أدبائها وفنانيها (وأطفالها؟) في زمن نفوذ اليسار ثقافيا في تلك الغضون، ما قد يرجّح أن صاحبنا، وقد نشر في مطلع السبعينيات في "الآداب" البيروتية، كما زميلاه، محمد زفزاف ومحمد شكري، ممن وقعوا على كتاب الرسوم ذاك في زمنه، ولم يكن قد أصدر بعد مجموعته القصصية الأولى "حزن في الرأس والقلب" (1973).
يأخذُك هذا التفصيل العابر، في المسألة هاته، إلى القضية الأعرض: التواصل الثقافي بين المغرب والمشرق العربيين. يأتي عليها إدريس الخوري في كتابه، متفكّرا وحسب. يسأل: هل بإمكاننا القول اليوم إن المغرب الثقافي، بكل مكوّناته، قد خرج من بوتقة الصدى إلى بوتقة الصوت، أي من معطف الشرق الثقيل؟ هل ما يزال المغربي صدىً أم أصبح صوتا؟ يجيب: كلاهما معا، صدىً لأنه يستهلك تقريبا كل ما يُنتجه المركز، ممثلا في بيروت والقاهرة، وصوتا لأنه أصبح مكتفيا بذاته، أي إنه ينتج كلامه الخاص، إبداعا وفكرا وترجمةً. .. يسترسل في إيضاح فكرته، وهذا شرحُه يطول، فمقامُ هذا المقال هنا أن إدريس الخوري تذكّر منى السعودي بين أطفال فلسطينيين، وهو بين أطفالٍ من بني جلدته، رحمهما الله.