أين السياسة في هذه الانتخابات السياسية؟

13 مارس 2021
+ الخط -

يتابع المرء بمشقّة الاستعدادات لإجراء انتخابات فلسطينية بعد انقطاع طويل، غابت فيه المؤسسة التشريعية، وبدت المؤسسة الفلسطينية ضعيفة التمثيل، ومنقطعةً عن الجمهور العريض، فيما الطرف الآخر الإسرائيلي يتمظهر باعتباره يحتكم إلى "الشعب" أمام كل مأزق سياسي. وبينما بذل الاحتلال كل ما تملك يمينه لإيجاد أجواء مُعرقلة لأداء هذا الاستحقاق، بالإغلاقات والاعتقالات ومداهمة المؤسسات وهدم البيوت وتعزيز دور "إدارة الاحتلال المدنية" في تيسير شؤون الحياة اليومية، وذلك بديلا عن السلطة التي يفترض أنها صاحبة الولاية على أمور شعبها، فإن مفاعيل الانقسام بين السلطة في رام الله وسلطة حركة حماس في قطاع غزة وضعف الأداء الحكومي، وحملات تكميم الأفواه على الجانبين، وسعي "حماس" إلى تأخير إجراء الانتخابات ما وسعها ذلك، ومن دون أن تكون للسلطة حماسة كافية لإجرائها، ذلك كله قد أسهم في هذا التأخير الطويل 15 عاما لأداء هذا الاستحقاق الحيوي.

ومن الواضح أن التغيير في الإدارة الأميركية بصعود الديمقراطيين قد أشاع مناخا جديدا، يُعاد فيه الاعتبار مبدئياً إلى مكانة الجانب الفلسطيني على الخريطة الإقليمية، وفي قلب المساعي للتوصل إلى تسويةٍ، ما زالت على درجةٍ عاليةٍ من الاستعصاء، ليس فقط لكون اليمين الإسرائيلي غير راغب بها، بل لأن هذا اليمين منغمسٌ في تغيير معالم الأرض المحتلة في الضفة الغربية وبسط الغزو الاستيطاني، وذلك مع تضخم جمهور هذا اليمين، وحيث بات التنافس في الساحة السياسية والحزبية قائماً بين منوعات اليمين، وليس بين يمينٍ وما هو غير يميني.

لقد أمكن لمكوّنات الجسم السياسي الفصائلي الاتفاق على إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية في قطاع غزة كما في الضفة الغربية، وتم الاتفاق على قانون الانتخاب، وعلى إنشاء محكمة خاصة بالمنازعات الانتخابية، وقد انتظر الجمهور انطلاق حملةٍ انتخابيةٍ تعيد الحيوية إلى الحياة السياسية، وتعكس غنى الواقع وتعدّديته، وتجسّد سجالاً بشأن الرؤى الصالحة لشقّ الطريق نحو ديناميةٍ جديدةٍ تمنح الجانب الفلسطيني وزنه المعنوي والسياسي المستحق. غير أن التنافس النزيه المنتظر بين القوى الاجتماعية والسياسية قد حل محله تنافسٌ علنيٌّ في صفوف "الحزب" الأكبر، وهو حركة فتح على تمثيل الحركة في قائمة واحدة موحدة. وقد تم استباق ذلك بإعلان الرئيس زعيم الحركة، محمود عباس، تحذيراتٍ شديدة اللهجة من ظهور أكثر من قائمة، وهدّد باستخدام القوة لمنع ذلك، وهي من المرّات النادرة التي يهدّد فيها باللجوء إلى القوة، غير أن ذلك لم يمنع من ظهور تياراتٍ داخل الحركة، أبرزها تيار ناصر القدوة الذي أعلن عن تشكيل ملتقى وطني ديمقراطي، بموازاة الإعلان عن تأييد ترشيح مروان البرغوثي لانتخابات الرئاسة، وقد حرص القدوة على القول إنه سيدعم البرغوثي في حال ترشّح للانتخابات، وبما يُبقي الباب مفتوحا أمام ترشّح القدوة نفسه، في حال آثر البرغوثي عدم الترشّح، ويتقدّم القدوة الذي أصدر عباس، أول من أمس الخميس، قرارا بفصله من حركة فتح، باعتباره حاملا مشروعا إصلاحيا "شاملا".

ارتفعت أصوات فتحاوية تدعو عباس إلى الامتناع عن الترشّح، لإفساح المجال أمام التجديد، فهل يستجيب؟

ارتفعت أصوات فتحاوية تدعو الرئيس عباس إلى الامتناع عن الترشّح، لإفساح المجال أمام التجديد. ولم يعلن الرجل ترشّحه، إذ في حالة تسمية الأسماء فإن حركة فتح هي من ستتولى الترشيح. ويُذكر هنا أن من المقرّر إجراء الانتخابات التشريعية يوم 22 مايو/ أيار المقبل، فيما تجري الانتخابات الرئاسية بعد نحو مائة يوم على ذلك (31 أغسطس/ آب). والتقارب في الموعدين المتتابعين يجعل التحضيرات والاستعدادات تتناول الاستحقاقين معا، وكل منهما، التشريعي والرئاسي، يتم بالاقتراع المباشر.

وإلى جانب الجدل المحتدم في صفوف "فتح"، فشلت منظمات اليسار في التوافق على تشكيل قائمةٍ مشتركة، ولم يسبق لهذا اليسار أن نجح في عمل توحيدي مثل هذا، والراجح أن ثلاثة أطراف، حزب الشعب والجبهة الديمقراطية وحركة فدا، سوف تتحالف مع قوائم حركة فتح، كما حدث ذلك في انتخاباتٍ سابقة. كما لوحظ استعداد رئيس الحكومة الأسبق، سلام فياض، لتشكيل قائمة من المستقلين. وإذ أصدر عباس قراراتٍ بتعزيز أجواء الحرية الإعلامية، فإن مسار الحملة الانتخابية لحركة حماس في الضفة الغربية وحملة فتح الانتخابية في قطاع غزة سوف يختبر مدى الحرية المتاحة هنا وهناك، ومدى تقبّل الاختلاف، وكذلك مدى النضج في تظهير الرؤى والمواقف والسياسية، بعيدا عن الخطابية المنفلتة والتجريح في المنافسين. علما أن الوسائط التواصلية الحديثة وأجواء الحذر من مخاطر تفشّي وباء كورونا، سوف تطوي صفحة المهرجانات العرمرمية ومكبرات الصوت، بما يجعل الحملة أكثر جديّةً وأشد تنافسية.

اصطفافات تتم على أساس فصائلي في الغالب، ويريد بعضهم للمجلس التشريعي أن يكون نسخة من المجلس الوطني، برلمان المنفى غير المنتخب

وسوف تكون الانتخابات المزمعة في القدس اختبارا للقوى الدولية، وبالذات لإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، في تمكين من بقي من أبناء المدينة من التصويت في انتخاباتٍ وطنيةٍ تتعلق بمصيرهم. وواقع الحال أن الإصرار على هذه المسألة يحمل مغزى سياسيا غير خافٍ، فالقدس جزءٌ من الأرض المحتلة وأبناؤها جزء من أبناء شعبهم، وتمكينهم من التصويت سوف يعزّز وضعهم المعنوي، وهذا مع محاذير من لجوء سلطات الاحتلال إلى معاقبة من يترشّح ومن يقترع، وذلك باختيار إجراء عقابي ما أو أكثر يتعلق بالإقامة والدخول إلى المدينة والخروج منها والضرائب وسوى ذلك.

ويبقى في غمرة ذلك أن الاصطفافات تتم على أساس فصائلي في الغالب، ويريد بعضهم للمجلس التشريعي أن يكون نسخة من المجلس الوطني، برلمان المنفى غير المنتخب. غير أن التعطّش للمشاركة، واستشعار الوعي السياسي العام أن جهودا حثيثة تبذل للقفز عن الجانب الفلسطيني. ومع إدراك مخاطر التطبيع العربي الساخن، فإن خوض الانتخابات يشكل مناسبةً شديدة الأهمية لممارسة واحدٍ من جوانب حق تقرير المصير وفقا للقرارات الدولية، وبناء المؤسسات الوطنية التمثيلية، وهي انتخاباتٌ تجري في وجود الاحتلال، ولكن بالرغم عنه، وبغير رغبة منه، بموازين القوى السياسية القائمة.

السياسة ما زالت غائبة أو شحيحة في الحملة الانتخابية الفلسطينية، بينما يكاد صوت اللهاث نحو الكراسي يُسمع من بُعد

وسوف يكون من الخطأ الشنيع الانغماس في التسابق للحصول على مقعد نيابي، هدفاً أولاً وأخيراً، وذلك على حساب إطلاق حملة سياسية قوية ومتسقة، ترفع صوت الشعب الرازح تحت الاحتلال بأن الحقّ في الحرية والاستقلال مقدّس، غير قابل للتفاوض أو المساومة، وتخاطب كل من يعنيه الأمر، ابتداء من الدول والشعوب الشقيقة والصديقة، مرورا بالمراكز الإقليمية والدولية، وليس انتهاءً بالطرف الآخر: سلطة الاحتلال والتيارات السياسية الإسرائيلية. وأن هذا الحق يتأصل بالتقادم، علماً أن الحساب الزمني لا يمسّ الحقوق الثابتة. وكلما طال الوقت، زادت الحاجة إلى احترام هذه الحقوق والعمل بمقتضاها. ويستحقّ الأمر التطرّق إلى أفكار تصدّر وراء الخط الأخضر تدعو إلى خيار الدولة الواحدة. كما يتطلّب الوضع الصحي، مع انتشار الوباء، القيام بجهود أكبر للحصول على لقاحاتٍ وبدعم دولي، وذلك لما يحمله الوباء من مخاطر على الأرواح، بما يجعل مكافحته مسألة أمن وطني.

وتبدو الحاجة ماسّة لإعادة ترسيم العلاقات مع واشنطن، وبقية المراكز الدولية، على أساس التقدم نحو إنهاء الاحتلال، لا الاكتفاء بمواقف مبدئية. وجملة القول هنا إن السياسة ما زالت غائبة أو شحيحة في الحملة الانتخابية، بينما يكاد صوت اللهاث نحو الكراسي يُسمع من بُعد. وهو ما لا يليق بحركةٍ وطنيةٍ متعدّدة المكونات، يُفترض أن تمثل شعبها تمثيلا أمينا وفاعلا.