أوهام لبنانية تبدّدها الوقائع .. عن الترسيم والحدود وتهريب الدولار والوقود
نجوم المجتمع في أي بلد طبيعي هم الممثلات الجميلات والممثلون الوسيمون وأبطال الرياضة الرشيقون وعارضات الأزياء الجذابات وملكات الجمال الفاتنات والراقصات المثيرات، ومَن في حكمهم من المشاهير، كالمغنين ذوي الأصوات الجميلة الساحرة. وقلما احتل السياسيون ورجال الدين مراتب النجوم، أو نافسوهم على تلك المكانة. أما في لبنان فالنجوم الأكثر شهرةً هم رجال السياسة "المحبوبون" جدًا، والذين كيفما تلفّتنا نعثر على صورهم الزاهية معلقةً بنظامٍ بديعٍ على المباني، أو على لوحات الطرق، خصوصًا في أثناء الانتخابات النيابية. وكثيرًا ما سبّبتْ لوحات الطرق هذه حوادث سير مروّعة، جرّاء تشاغل عيون السائقين بين صور هذا الزعيم أو ذاك، الأمر الذي يجعل اليقظة في أدنى درجاتها. وما برحت أخبار هؤلاء النجوم تتصدّر الصحف في كل يوم. وكلما تزوج واحد منهم، أو زوّج ابنه أو ابنته، أو اشترت زوجته فستانًا ثم خلعته، تحتفي وسائل الإعلام المرئية بهذا الحدث، من دون أن يساورها أي خجل أو تردد. وعلاوة على ذلك، لا تكفّ محطات التلفزة عن استضافة مَن انتهت صلاحيته الزمنية في برامج الثرثرة. وهناك يتبارى السياسيون "المحبوبون" والإعلاميون "المرموقون" والخبراء "الاستراتيجيون" والعلماء "الاقتصاديون" في عرض قدراتهم في ميادين النكاية وكشف مثالب الخصوم والتعمية على مباذل الأحباب والأصحاب، حتى أنني صرتُ أصدّق الجميع بلا استثناء؛ فكلما فضح سياسي (أو تابعُه الإعلامي) قبائح غريمه، أو كلما هتك صحافي سرّ زعيمٍ لمصلحة منافسه، يبادر الغريم إلى الردّ بالمثل. ويلوح لي أن الاثنين صادقان إلى حد كبير؛ فالسياسيون في لبنان باتوا كالقرود، إذا تشاجروا أفسدوا الزرع، وإذا تصالحوا أكلوا المحصول .. وهات يا تسلية في الليالي المسهدة.
هذه النجوم التي تومض ولا تضيء، ما إن يجلس الواحد منها أمام آله التصوير حتى يتحوّل، يا للغرابة، إلى كائن مغاير، فيصبح مندهشًا ومنتعشًا كأنه في قاعة مرايا لا يرى إلا نفسه كيفما تحرّك، ويأخذ في الكلام على كل شيء، من الاقتصاد الصيني إلى الفيروسات، ومن القنابل النووية إلى علوم الفضاء (لعله يعتقد أن علم الفضاء هو الأبراج الفلكية)، ويخال أن كلمته مسموعة ورايته فوق هام المجد مرفوعة؛ فقد استهواه الغرور ما إن صار يعرف معنى كلمة "بونجور". وهكذا تختلط الأهواء السياسية والغرائز الطائفية والمصالح الصغيرة بالجهل أيما اختلاط. والأنكى أن كثيرين من المحللين الاقتصاديين الذين يتزاحمون ويتدافعون على شاشات التلفزة يجهلون الاقتصاد كعلم، إلا أقلهم بالتأكيد، ولا يعرفون منه غير ما كانت تذيعه منشورات الأحزاب الشيوعية القديمة في ستينيات القرن المنصرم، مثل كراس كارل ماركس "الأجور والأسعار والأرباح" و"العمل المأجور ورأس المال"، أو مختارات من البيان الشيوعي، أو كتابات بودوستنيك وياخوت، وكيف تصبح شيوعيًا في أحد عشر درسًا واثني عشر تمرينًا، أو المقرّرات النظرية للسنة الجامعية الأولى في كلية الاقتصاد، مثل نظريات القيمة والمنفعة والعرض والطلب. وهؤلاء برهنوا بالفعل أن العلم الذي لا ينفع مثل الجهل الذي لا يضرّ، لكن جهل هؤلاء "الخبراء" يفوق في أضراره الجبن العتيق أو ثريد الزّقوم.
الحكمة الجارية في أشداق الثرثارين في لبنان اليوم هي: "لا تدع لسانك يقطع رزقك، بل دعه يملأ جيوبك"
في الدول غير الديمقراطية كانت الحكمة السائرة في الأفواه هي: "لا تدع لسانك يقطع رقبتك". أما في لبنان اليوم فإن الحكمة الجارية في أشداق الثرثارين هي: "لا تدع لسانك يقطع رزقك، بل دعه يملأ جيوبك". وهذا الابتذال عاهة أخلاقية جلية تماماً. لكن، حتى العاهة في لبنان تكون مفيدة أحيانًا لدى المركنتليين وهم يتحدثون عن الديمقراطية والتغيير والإصلاح والدولة المدنية والموضوعية والواقعية، فيما روائحهم المنتنة تجاوزت مالطا، وصارت حتى العجائب تتعجب منها. ومن عيوب الديمقراطية، بحسب برنارد شو، أنها ترغمنا على الإنصات إلى الحمقى.
الكلام الناقص كذب خالص
كنا، في زمن الألق الثوري، ننصح التلاميذ بالهروب من دروس المحفوظات الدينية إذا كان مَن يلقيها عليهم مدرسون لا ديدن لهم غير إثارة الكراهية والتعصّب والجهل. وكنا، في السياق نفسه، ندعو إلى إخراج المساجين السياسيين من المعتقلات العربية على أن يوضع في مكانهم قضاة ورجال شرطة؛ فالحكم بغير الحق مائل حكمًا عن الحق. واليوم نتطلع، في معمعان الصخب الإعلامي الذي لا نعرف رأسه من كعبه، إلى أن يلفظ الناسُ مَن امتهن ترويج الشائعات السامة على شاشات التلفزة، وكل مَن لم يمتلك الحد المعقول من المعرفة والنزاهة العلمية، ويصرّ فوق ذلك على استباحة الحقائق والفتك بالوقائع لمصلحة انتمائه الحزبي أو المذهبي؛ فالحقيقة الناقصة، ولو قليلاً، هي كذبة كبيرة. وقد تعيّشَتْ في إحدى المراحل، قبل الحرب الأهلية (1975-1990)، صحف لبنانية عدة على الحدث السوري، فكانت تبيع أعدادها بحسب عنوانها ومقدار الإثارة فيه. وفي إحدى المرّات صدرت صحيفة التلغراف اللبنانية وهي تحمل عنوانًا أحمرَ كبيرًا يقول: "انقلاب عسكري سوري". وقد تخطفتها أيدي الناس، سيما السوريون، فطارت أعدادُها بيعًا وإعارة، ثم تبين أن العنوان الرئيس، أي المانشيت، مجرد احتيال؛ فقد انقلب بالفعل عسكري سوري بسيارته في حادثة سير، وانتهى الأمر عند هذا الحد. ووجد أرزقية الصحافة الظرفاء في ذلك مغنمًا يدرّ عليهم بعض الليرات، فبادروا إلى نشره بتلك الصيغة غير هيّابين بالحقيقة البسيطة. وعلى هذا المنوال، يصطخب الكلام اليوم في الصحافة اللبنانية، المقروءة والمسموعة والمرئية، على تهريب المحروقات والطحين إلى سورية، وتهريب الدواء إلى مصر والعراق، وتهريب الدولار إلى إيران (وإلى سورية استطرادًا)، علاوة على قصة ترسيم الحدود الشرقية والجنوبية لحسم قضية مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، وإلى مَن تعود ملكيتها. وقد بحثتُ وفتّشتُ كثيرًا، لا في الفناجين المقلوبة كما يفعل "مناضلو" التلفزيونات وفرسان الكيبورد والواتساب، بل في المصادر المحترمة والمظان المعتبرة، فوجدتُ ما يلي:
1- تهريب المحروقات:
يبلغ سعر صفيحة البنزين في سورية دولارين (4500 ليرة سورية)، وبعد رفع سعره في 20/10/2020 صار سعر الصفيحة أربعة دولارات (يمكن أن يتضاعف السعر في السوق السوداء عند شح الكميات). أما في لبنان فيبلغ سعر صحيفة البنزين 18 دولارًا بحسب السعر الرسمي للدولار. فكيف يمكن تهريب البنزين من لبنان الذي يبلغ سعر الصفيحة فيه 18 دولارًا كي يباع في سورية بأربعة دولارات؟ وحتى لو احتسبنا سعر السوق، فإن ثمن الصفيحة ثلاثة دولارات، فكيف يُهرّب إلى سورية ليباع بدولارين أو أكثر قليلًا، من دون احتساب النفقات الإضافية؟ الأمر هنا خبال خالص، أو مثل تجارة جحا بالبيض. وما برح "الخبراء" و"المحللون" و"السياسيون" والنواب "المحبوبون" لدى خمسة ملايين لبناني ينتخون لمكافحة التهريب المزعوم. والحقيقة أن لا تهريب للبنزين اللبناني الذي تدعم الدولة اللبنانية سعره، ولا من يحزنون، بل ثمّة التفاف على العقوبات الأميركية وقانون قيصر. وثمة تجّار سوريون، في دبي أو في اليونان، يشترون الوقود ويفرغون الكميات المشتراة في مستودعات موجودة على الشاطئ اللبناني، ومن هناك تُنقل بالصهاريج إلى سورية. وفي هذه الحال، تغمر المنفعة الجميع أمثال المسيطرين على الخزانات، والقوى السياسية المهيمنة عليها، وأصحاب الصهاريج اللبنانيين، علاوة على المتنفذين الكبار الذين يضمنون الصمت والسرّية.
يزعم الكلام الشائع إن ثمة عمليات تهريب للطحين المدعوم من لبنان إلى سورية. والحقيقة أن الطحين لا يمكن تخزينه بهدف تهريبه، لأن السوس سرعان ما يدبّ فيه
كما أن بواخر النفط الإيراني تناور كثيرًا في البحر الأبيض المتوسط كي تتمكّن من إفراغ حمولاتها في ميناء بانياس السوري حيث تقع المصفاة المعروفة، وربما تعمد السفن الكبيرة إلى تفريغ شحناتها في بواخر أصغر حجمًا في عرض البحر. وتلك البواخر الصغيرة تتجه إما إلى مصفاة بانياس أو إلى بعض المستودعات اللبنانية، ثم تُنقل بعد ذلك إلى سورية. وقد رقص كثير من السياسيين اللبنانيين الأميين للصور التي بثتها بعض محطات التلفزة، والتي تُظهر صهاريج الوقود وهي تعبر الحدود اللبنانية – السورية بطريقةٍ غير شرعية، واتخذوا من تلك الصور برهانًا على عمليات تهريب البنزين المدعوم. لكن، لسوء حظ هؤلاء، فقد تبين، بسرعة، أن صور تلك الصهاريج تعود إلى عام 2014، حين لم يكن ثمّة أي أزمة وقود في سورية أو في لبنان، وهي كانت تتجه إلى مزرعةٍ لبنانيةٍ بالقرب من الحدود السورية، وهذا كل ما في الأمر. لكن الكلام على التهريب ما زال جارياً، علمًا أن ثمة بالفعل تهريبًا للغاز المنزلي، لكنه محدود، ونطاقه لا يتجاوز القرى الحدودية على الجانبين.
موظف في محطة وقود في عمشيت اللبنانية (20/4/2020/ فرانس برس)
2 ـ تهريب الطحين:
يزعم الكلام الشائع إن ثمة عمليات تهريب للطحين المدعوم من لبنان إلى سورية. والحقيقة أن الطحين لا يمكن تخزينه بهدف تهريبه، لأن السوس سرعان ما يدبّ فيه؛ فالطحين يخرج من المطاحن إلى الأفران. إذاً، المقصود هو القمح لا الطحين (سنعذر الذين لا يفرّقون القمح عن الطحين)، وكان ذلك قبل تدمير أهراءات القمح في مرفأ بيروت يوم 4/8/2020. وقد قامت قيامة الغوغاء والإعلاميين ولم تقعد، حين شوهدت شاحنات محمّلة بالمواد الغذائية تتجه من طرابلس إلى سورية، فاعترضوها بطريقة عنصرية، وأتلفوا محتوياتها بحجّة منعها من تهريب حمولتها. وتبين، يا للخيبة، أن تلك الشاحنات تابعة لبرنامج الأمم المتحدة لمساعدة الشعب السوري، ولا علاقة لها بالتهريب قط. ومهما يكن الأمر، معروفٌ أن سورية بلد منتج للقمح، مع أن الأمر راح يتغير منذ عدة سنوات، خصوصًا عندما عمد الاحتلال الأميركي وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) إلى إشعال النيران في حقول الجزيرة السورية في صيف 2020، أي قبيل الحصاد. والمعروف أيضًا أن ثمن كل ثلاث ربطات خبز في لبنان يساوي دولارًا واحدًا من وزن 900 غرام. فيما يمكن شراء 25 ربطة خبز في سورية بدولار واحد، ومن وزن 1100 غرام. والتهريب في هذه الحال عمليةٌ من أعمال الهبل الخالص. ثم إن أي نقصٍ في محصول القمح في سورية يمكن تعويضه إما من المخزون الاستراتيجي أو من روسيا، ولا يحتاج الأمر إلى عناء تهريبه من لبنان الذي لا يملك أي قمح بعد انفجار ميناء بيروت ودمار أهراءات القمح فيه. وعلى الرغم من أن لبنان نفسه يعاني النقص في القمح، وبات بلدًا يُحسَن إليه، فقد ظهر في 5/11/2020 أن كميات كبيرة جدًا من الطحين (10 آلاف طن) كان العراق أرسلها مساعدة للبنان قد خُزّنت في مستودعات المدينة الرياضية في بيروت، وفي مستودعات الكرنتينا، وفي مناطق أخرى أيضًا، بطريقة تؤدي حكمًا إلى تعفنها جرّاء الرطوبة ومياه الصرف الصحي والحشرات والقوارض ومخلفاتها. وهذا التخزين يتيح للفاسدين إتلاف كمياتٍ منها (قُدرت بثلاثمئة طن)، والادعاء أن كمية التلف أكبر بكثير، وبناء على ذلك يُسرق الفارق، لا لتهريبه إلى سورية، حيث لا أرباح هناك، وإنما بيعه في السوق المحلية، والتربّح منه بطريقة النهب المكشوف. ومع ذلك ما برح بعضهم ممعنًا في الكلام على تهريب الطحين إلى سورية من دون التحفظ أو مراجعة كلامه.
3- تهريب الدواء:
انتشتْ بعض وسائل الإعلام اللبنانية بخبر القبض على مسافر مصري بعد العثور في حقيبته على كميات من الأدوية. واحتفى كثيرون بحادثةٍ جاءت باليقين الساطع والبرهان القاطع على تهريب الأدوية إلى مصر (ستة صناديق صغيرة)، خصوصًا بعد القبض على مواطن لبناني يدير صيدليةً، ويقوم بتهريب الأدوية إلى مصر، وكذلك أربعة مواطنين مصريين يعملون في محلٍّ للخضراوات، ويخزنون بعض علب الأدوية لحملها معهم إلى مصر، علاوة على مواطن لبناني يهرّب الدواء إلى العراق. بيد أن العالمين ببواطن الأمور تساءلوا: أي تهريبٍ هذا والكمية المصادرة من المواطن المصري تتجاوز قليلاً مقدار ما يحمله المسافرون معهم في قعر حقائبهم، وهي تحدُث يوميًا في المطارات، تمامًا مثلما يفعل اللبنانيون عادة حين يلبون طلبات آبائهم وأمهاتهم وأقربائهم وأصدقائهم بإحضار أدوية محدّدة لهم من دبي أو الدوحة أو الرياض أو دمشق؟ وتبين لاحقًا أن السبب في نقص الدواء في لبنان، المدعوم وغير المدعوم، ليس التهريب، وهو موجود حقًا، لكنه هامشيٌّ في أي حال، بل التخزين في مستودعات شركات الاستيراد الجشعة انتظارًا لارتفاع الأسعار، أو في مستودعات الصيدليات، أو في المنازل تحسبًا لفقدانه.
لا تهريب جديًّا للدواء، بل ثمة تصدير متمادٍ إلى العراق وليبيا، لأن مصنّعي الدواء يريدون استعادة الأموال بالدولار من طريق التصدير المباشر
وقد أوضح نقيب الصيادلة في لبنان، غسان الأمين، في 24/10/2020، أن الصيدليات باعت أدوية خلال شهرين (سبتمبر/ أيلول وأكتوبر/ تشرين الأول 2020) بلغت ثلاثة أضعاف مبيعاتها الاعتيادية، وذهبت هذه الكميات إلى المنازل؛ إنه داء بلا دوا وعماء على عمى. وقصارى الكلام في هذا الشان أن لا تهريب جديًّا للدواء، بل ثمة تصدير متمادٍ إلى العراق وليبيا، لأن مصنّعي الدواء يريدون استعادة الأموال بالدولار من طريق التصدير المباشر، فيما تسويق الدواء في السوق المحلية لا يعود عليهم بسوى الليرة اللبنانية التي ما برحت تفقد قيمتها يومًا بعد يوم.
4- تهريب الدولار إلى سورية:
تُقدر ودائع السوريين في المصارف اللبنانية ما بين 24 و40 مليار دولار. وكانت المصارف اللبنانية تجتذب ودائع رجال الأعمال السوريين، وحتى الأفراد، منذ زمن بعيد يعود إلى خمسينيات القرن العشرين، جرّاء ارتفاع الفائدة، وسهولة انتقال الأموال وتحويلها. وكان رجال الأعمال السوريون يسحبون من ودائعهم المقادير التي تؤمن لهم تسيير أعمالهم في سورية ولبنان وأوروبا وبعض دول الخليج العربي، ويودعون أرباحهم في المصارف اللبنانية. وعلى هذا المنوال، كانت الأمور تسير حتى أعلنت الدول اللبنانية توقفها عن دفع "اليوروبوند"، واحتجزت المصارف أموال المودعين كلهم، ووقع رجال الأعمال السوريون وبقية المودعين في المصيدة، وتعطّلت أعمالهم، وفقدت أعداد منهم الموارد المالية اللازمة لتسيير أشغالهم. لكن "المحللين الاقتصاديين" من ذوي الأهواء السياسية المحلية، والذين يتجنّبون أبسط مبادئ علم الاقتصاد، لا يكفّون عن تحريف الحقائق والوقائع، ويصرّون جهلاً على تضليل الرأي العام، وينهمكون في ترويج الشائعات إن الدولار يُهرّب إلى سورية، وهم بذلك يحرفون الأنظار عن جرائم السياسيين اللبنانيين الذين نقلوا أموالهم في عز الأزمة إلى خارج لبنان، وتواطأت معهم معظم المصارف. وهؤلاء إياهم ما برحوا يثيرون الغبار على حركة الأموال البسيطة والمحدودة جدًا التي تنتقل بين لبنان وسورية كي يتستروا، قصدًا أم جهلًا، على المهرّبين الحقيقيين للأموال.
السبب العلمي للأزمة النقدية الجارية ليس التهريب بالطبع، بل انهيار الاقتصاد اللبناني بعد إفلاس الدولة وتوقفها عن الدفع، واحتجاز المصارف الودائع
ولنفترض أن إحدى شركات الصيرفة في بيروت أرادت، لأسبابٍ ما، تهريب الدولار إلى سورية، وعمدت إلى شرائه من السوق المحلية، ثم تجمع لديها خمسة ملايين دولار على سبيل المثال. وهنا، سيسافر صاحب الشركة إلى دمشق بطبيعة الحال، ويسلم المبلغ إلى المصرف المركزي السوري بحسب المفترض. عال! وبعد ذلك؟ ماذا سيتلقى صاحب شركة الصيرفة لقاء المبلغ؟ عملة سورية؟ "ما بينفعش"، لأن العملة السورية ما عادت عملة تبادل مع الدولار أو مع أي عملة أخرى. هل يتلقى مقابل الخمسة ملايين دولار بضائع كالملبن والنوغا والأغباني والبياضات والشراشف والستائر والملابس الداخلية والمكدوس والشنكليش؟ هذا من المحال، لأن الصيارفة ليسوا تجّار مواد استهلاكية. وهذا التصوّر الذي يروّجه رواد الثرثرة في محطات التلفزة اللبنانية إنما هو خبال، ولا يردّده إلا كل "غشيم مصلحة" بلغة أهل الشام.
الصورة الواقعية والصحيحة أن رجال أعمال سوريين مضطرّون أحيانًا إلى سحب جزء من ودائعهم المحجوزة في المصارف اللبنانية، لكن تلك المصارف لا تلبي طلباتهم إلا بالليرة اللبنانية، وبالسعر الرسمي (1515 ليرة للدولار الواحد)، أي بست مرّات أقل من سعر السوق (سعر السوق بين 7500 ليرة و 8 آلاف ليرة للدولار)، ثم يشترون بهذه المبالغ من السوق دولارات بحسب السعر المتداول، أي بخسارة كبيرة جدًا، كي يتمكّنوا من تشغيل مصالحهم في سورية أو في لبنان. وتصل خسارتهم في هذه العملية إلى نحو 88% من قيمة مسحوباتهم. وعلى سبيل المثال، لو أن رجل أعمال سوريًا مضطر إلى مئة ألف دولار بصورة عاجلة، فإن مصرفه اللبناني لن يصرف المبلغ، وهي من ودائعه، إلا بالليرة اللبنانية وبالسعر الرسمي. والمئة ألف دولار تعادل 150 مليون ليرة لبنانية بالسعر الرسمي. وهنا يصبح رجل الأعمال هذا مجبرًا على شراء الدولار من السوق، وبشقّ النفس. وفي نهاية المطاف، سيتمكن من شراء 12 ألف دولار فقط بالمئة والخمسين مليون ليرة لبنانية، أي أنه سيكون قد اشترى بمئة ألف دولار من حسابه 12 ألف دولار من السوق، الأمر الذي يعني خسرانه 88 ألف دولار. وهو ما يعني أيضًا أن المصرف تمكن من خفض التزامه تجاه العميل بمقدار 100 ألف دولار، ولم يدفع له غير 150 مليون ليرة، وهو مبلغ قيمته الحقيقية 12 ألف دولار فقط. وأبعد من ذلك، فقد استفاد الصرّافون وبائعو الدولار في السوق الموازية والسماسرة كلهم على حساب المودع، سوريًا أَكان أم لبنانيًا أم عربيًا. وهذه عملية واحدة من مئات العمليات اليومية. ولو كان في لبنان عدلٌ لامتلأت السجون وخلت القصور.
هل سبب نقصان الدولار في السوق اللبنانية التهريب إلى سورية أم التحويلات التي بلغت إلى ما لا يقل عن 50 مليار دولار في سنة 2020 وحدها، والتي صبّت كلها في حسابات الزعماء اللبنانيين لدى المصارف الأوروبية؟ وهل السبب في فقدان الدولار راجع إلى سحب مبالغ ضئيلة من الدولارات لتأمين الأعمال اليومية، أم إلى فقدان الثقة بالنظام المصرفي اللبناني حيث تُقدّر الدولارات المخزونة في منازل اللبنانيين بنحو خمسة مليارات دولار؟ والسبب العلمي للأزمة النقدية الجارية ليس التهريب بالطبع، فهذا كلام غثٌّ وسقيم، بل انهيار الاقتصاد اللبناني بعد إفلاس الدولة وتوقفها عن الدفع، واحتجاز المصارف الودائع، الأمر الذي جعل الناتج العام يتهاوى من 53 مليار دولار في عام 2018 إلى نحو 19 مليارًا في عام 2020، الأمر الذي جعل متوسط دخل الفرد اللبناني يقلّ عن ثلاثة آلاف دولار سنويًا، فيما يبلغ متوسط الدخل الفردي في سريلانكا نحو أربعة آلاف دولار سنويًا بحسب تقرير صندوق النقد الدولي للثلث الثالث من عام 2020. والحقيقة أن لبنان لا يعاني نقصًا في الأموال بل كثرة اللصوص.
متظاهرون يحتجّون على العنصرية ضد اللاجئين السوريين (18/7/2016/ فرانس برس)
5- ترسيم الحدود:
يطالب مَن لا يفرّق أحمد شوقي عن الأرضي شوكي، أو جائزة نوبل عن شركة موبيل، بترسيم الحدود اللبنانية – السورية. ومن غرائب الأحوال أن كثيرين من "الخبراء" و"المحللين السياسيين" يطالبون الحكومة السورية بتقديم مذكّرة رسمية إلى لبنان تعترف فيها سورية بأن مزارع شبعا وتلال كفرشوبا هي لبنانية فعلًا، مع أن هؤلاء يُضمرون رغبة قوية في ألا تكون المزارع والتلال لبنانية بالفعل، لأن من شأن ذلك أن يريحهم من حجّة حزب الله في المقاومة ودوام الصراع مع إسرائيل على تلك الأراضي المحتلة. والحقيقة العلمية البسيطة أن الحدود السورية – اللبنانية مرسومة بدقة، ومحدّدة بمئات النقاط، ولا تحتاج أي ترسيم جديد، والمطلوب هو إظهار العلامات فحسب. ويستطيع الخبراء الطبوغرافيون، اللبنانيون والسوريون، أن يمسكوا الخرائط المحفوظة لدى مؤسسات الدولتين، كرئاسة الجمهورية ووزارة الخارجية وقيادة الجيش ومجلس الوزراء والمحفوظات الرسمية، ويذهبوا إلى مناطق الحدود لإظهار العلامات وتلوينها، ثم تأتي معالجة بعض المشكلات الهامشية الطبيعية كالتداخل هنا وهناك. وتلك الخرائط موجودة لدى مديرية الشؤون الجغرافية في الجيش اللبناني ومن مقاسات مختلفة (1/20 ألفًا و1/50 ألفًا)، وهي وضعت في عام 1962 بمعونة من خبراء المعهد الوطني الفرنسي المتخصص برسم الخرائط. وتُظهر تلك الخرائط أن مزارع شبعا وخراج كفرشوبا والهبارية تقع كلها ضمن الأراضي اللبنانية. وفي أي حال، إذا أراد أي طرفٍ أن يثبّتْ ملكية منزله، على سبيل المثال، عليه أن يقدّم الوثائق المطلوبة بنفسه، كعقد البيع وسند الملكية، لا أن يطلب من جاره تقديم تلك الوثائق كما يجري في حكاية مزارع شبعا البديعة ووقائعها المريعة.
لم يتردّد وزير خارجية سورية، فاروق الشرع، في الإعلان، من برشلونة عام 2005، أن مزارع شبعا لبنانية
ومع ذلك، وللتذكير فحسب، فقد أرسلت الحكومة السورية في 29/9/1946 رسالة رسمية إلى الحكومة اللبنانية (الرقم 52-124/574) تؤكد فيها أن مزارع شبعا لبنانية. وتؤكد محاضر اللجنة المشتركة السورية – اللبنانية في 27/2/1964 و21/2/1967، وهي وثائق رسمية، أن مزارع شبعا الواقعة في نطاق الحدود العقارية لقضاء حاصبيا هي لبنانية. وفي 24/2/2000 قدّم مندوب سورية في الأمم المتحدة، ميخائيل وهبة، رسالة رسمية إلى الأمم المتحدة، يقول فيها إن مزارع شبعا لبنانية. وفي التقرير الذي رفعه الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان إلى مجلس الأمن في 17/6/2000 أكد أن سورية أبلغت الأمم المتحدة رسميًا أن السيادة على مزارع شبعا تعود إلى لبنان. ولم يتردّد وزير خارجية سورية، فاروق الشرع، في الإعلان، من برشلونة عام 2005، أن مزارع شبعا لبنانية. ومع ذلك ما برح "الخبراء" في برامج الثرثرة التلفزيونية مداومين على الإفك بلا تبصر أو بصيرة؛ فهم مثل عين السمكة ليس لها جفن ليرفَّ خجلاً حين يُواجَهون بالحقائق الدامغة.
الأرزقية
كان لصوص العرب، في بعض الحقب، إذا خرجوا إلى النهب، يعمد أحدُهم إلى الماء فيتوضأ، ويصلي ركعتين، ويتضرّع إلى الله أن يعافيه مما هو فيه من كسب الحرام، وأن يجعل رزقه من وجهٍ حلال. وكان اللصوص يتعاهدون، قبيل الغارة، على ألا يأخذوا من المكان الذي يدخلون لسرقته فوق كفايتهم، ولا يروّعوا امرأة حاملاً أم غير حامل، ولا يُرعبوا طفلاً أو رضيعًا. لكن ناهبي الدولة اللبنانية من اللبنانيين لم يشبعوا ألبتة، منذ عهد رئيسهم الاستقلالي الأول، بشارة الخوري، وشقيقه "السلطان سليم"، ثم من تبعهما حتى اليوم وربما إلى يوم الدين. وبفضل هؤلاء جميعًا صار لبنان سعيرًا لا تُخمدُ أوارَه ثروات الدنيا، وبات دولةً جائرة ذات حاشية فاجرة وبطانة بائرة وموظفين فاسقين ووزراء منافقين. ثم يقولون إن من الضروري إصدار قانونٍ يعفو عن المجرمين. وبالطبع، ليس هذا القول غريبًا، فالقوانين، في العادة، من جنس مَن يصوغها لتخدم مصالح البلد وقراصنته وعشائره وعائلاته وطوائفه ومذاهبه. والأنكى أن بعض هؤلاء لا يستحون من تلميع سمعة عشائرهم، ويفاخرون بكثرتها وعنفوانها؛ تلك العشائر التي جمعت في أسمائها ما حُمّدَ وعُبّدَ إلى ما يحبّب القلوب إلى الدين على غرار شمس الدين وبدر الدين وزين الدين وبهاء الدين وسيف الدين وعز الدين ونصر الدين وتقي الدين، حتى ضاقت الحال بالدين فانفجر شاكيًا:
طلَع الدينُ مستغيثًا إلى الله/ وقال: العبادُ قد ظلموني
يتسمّون بي وحقِكَ لا أعرفُ/ منهم شخصًا ولا يعرفوني