أوكرانيا .. ولَكَ يا زيلينسكي في ساكاشفيلي عبرة
اعتَقَدَ الرئيس الثالث لجورجيا ميخائيل ساكاشفيلي أن علاقاته التي بناها في واشنطن خلال دراسته في جامعة جورج واشنطن عام 1994 ستقرّبه ليس فقط من قلب ساكن البيت الأبيض، ولكن أيضاً ستجعله عضواً مؤثراً في التحالف الأميركي - الأوروبي لاحتواء روسيا، متساوياً معهم ليس فقط في الواجبات، ولكن في حقوق الحماية من موسكو أيضاً. وعندما أصبح رئيساً لجورجيا لاحقاً، تفانى شاكاسفيلي في خدمة الغرب، فعزّز الوجود العسكري لبلاده إلى جانب قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) في العراق وفي كوسوفو وفي أفغانستان أيضاً. وعندما تحرّك الانفصاليون في أوستيا الجنوبية، المدعومون من روسيا في داخل جورجيا، عام 2008، تقدّم شاكاسفيلي، بكل ثقة، للقضاء عليهم، ظاناً أن تحالفه مع "الناتو" سيحميه من غضب الكرملين. وفي غضون خمسة أيام من بدء العملية العسكرية الجورجية، كان التحرّك الروسي قد سيطر على كامل مقاطعتي أوستيا الجنوبية وأبخازيا أيضاً، وأصبحت الدبابات الروسية على بعد كيلومترات من العاصمة تبليسي، بهدف إطاحة ساكاشفيلي. لم تتحرّك قوات "الناتو" لحمايته، ووجد نفسه وحيداً بمواجهة الدب الروسي، وكان أقصى ما قدّمه الغرب له أن الرئيس الفرنسي آنذاك، ساركوزي، طار إلى الكرملين، طالباً السماح والعفو عن ساكاشفيلي، على أن لا يعود إليها مرة أخرى، فوافقت موسكو، واعترفت، في المقابل، رسمياً باستقلال المقاطعتين عن جورجيا.
للصراع أصوله المتفاهم عليها ما بين القوى العظمى، والتي لا تدركها أو لا تريد أن تعترف بها القوى الصغرى
يتكرّر السيناريو نفسه اليوم في أوكرانيا، إذ يعتقد الرئيس الأوكراني، الصديق الوفي لدونالد ترامب، فولوديمير زيلينسكي، أن "الناتو" سيوفر له الدعم الذي يريد لمواجهة الانفصاليين المدعومين من روسيا في إقليم دونباس، واستعادة المنطقة الخاضعة لسيطرتهم إلى الوطن الأم، وتحديداً جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك الشعبيتين، اللتين أعلنتا انفصالهما عن أوكرانيا عام 2014. لقد طالب زيلينسكي وما زال يأمل بضم أوكرانيا رسمياً الى عضوية "الناتو"، وهناك تقارير عن وجود قاعدة عسكرية للحلف جنوبي أوكرانيا، الأمر الذي يعطي إشاراتٍ مقلقة للوجود الروسي في القرم التي سيطرت عليها روسيا عام 2014. وحديثاً بدأت أوكرانيا إجراء مناورات عسكرية مع "الناتو" تزامناً مع الأجواء المشحونة في إقليم دونباس. لم يخف الجانب الروسي قلقه الكبير من المناورات العسكرية، ومن ردّة الفعل التي يمكن لزيلينسكي اتخاذها تجاه الانفصاليين في دونباس.
للصراع أصوله المتفاهم عليها ما بين القوى العظمى، والتي لا تدركها أو لا تريد أن تعترف بها القوى الصغرى، ظناً منها أن في وسعها تحقيق مصالحها باللعب على هذه التناقضات، فتجد نفسها أحياناً كثيرة، وقد استخدمت ليس أكثر من وقود لها. أولى قواعد الصراع وأهمها أن هناك سقفاً محدّداً للدعم الغربي في المناطق التي يعتبرها الخصم الروسي "مسائل أمن قومي"، حيث يقتصر على الدعم الدبلوماسي والسياسي والاقتصادي، ولكنه لا يصل، في أي حال، إلى الدعم العسكري، حتى ولو دخلت الدبابات الروسية إلى تبليسي أو كييف أو غيرها من العواصم ذات الحدود المشتركة مع روسيا. وليست هذه القاعدة جديدة، فقد أدركتها موسكو أيضاً منذ أزمة صواريخ كوبا عام 1962، عندما استنفر نووياً الرئيس الأميركي آنذاك، جون كينيدي، فما كان من الاتحاد السوفييتي إلا أن سحب جميع صواريخه العسكرية من الجزيرة الكوبية المحاذية للحدود الأميركية.
يناكف الغرب روسيا على حدودها، ويستخدم ملفات مثل أبخازيا وأوستيا الجنوبية ودونباس والقرم، كأوراق ضغط لتسوية قضايا كبيرة معها
منحت موسكو الانفصاليين في دونباس جوازات سفر روسية، وبذلك اعتبرتهم مواطنين روسا، فيمكن لها أن تبرّر تدخلا عسكريا محتملا داخل الأراضي الأوكرانية، لحماية "مواطنين روس" من بطش كييف بهم. ومعلوم أن التدخل لحماية مواطني دولة معينة يمكن تبريره مسوغا أخلاقيا لتدخل عسكري، ليس فقط عالمياً، ولكن أيضاً لتبريره في الداخل الروسي أيضاً.
يناكف الغرب روسيا على حدودها، ويستخدم ملفات مثل أبخازيا وأوستيا الجنوبية ودونباس والقرم، كأوراق ضغط لتسوية قضايا كبيرة معها، تتعلق بعلاقاتها مع أوروبا وبدور روسيا على الساحة الدولية. وكما هو الحال بممارسات واقعية سياسية كثيرة، فإذا اتفق الخصمان الكبيران، روسيا والغرب هنا، فستخرج الأطراف الصغيرة بخفي حنين، حيث لن يكون من المجدي بعدها مواصلة الدعم لهم، وإذا لم يتفقا، وحدث أن تدخل أحد الأطراف عسكرياً ضد الأطراف الصغيرة فسيكتفي الطرف الآخر بالشجب والإدانة، وربما أبعد من ذلك قليلاً، قد تصل إلى عقوبات اقتصادية، كما فعل الغرب مع روسيا بعد اجتياحها شبه جزيرة القرم.
يبدو أن زيلينسكي الذي كان ممثلاً قبل أن يصبح رئيساً، قد أثرت خلفيته المهنية بالتمثيل عليه كثيراً، فاندمج في الدور أبعد قليلاً مما يجب
خسر شاكاسفيلي مقاطعتي أوستيا الجنوبية وأبخازيا، وكاد يخسر العاصمة بحماقته التي دعته إلى الاعتقاد بأن الغرب سيحميه من روسيا التي تنظر إلى الصراع الحدودي معه على أنه أمن قومي لموسكو، ويبدو أن زيلينسكي الذي كان ممثلاً قبل أن يصبح رئيساً، قد أثّرت خلفيته المهنية ممثّلا عليه كثيراً، فاندمج في الدور أبعد قليلاً مما يجب، وأصبح يرى أن في وسعه ترتيب الأوضاع على هواه، تماماً كما كان يفعل كممثل، وبإمكانه أيضاً استدعاء الغرب عسكرياً إلى أوكرانيا ليحلّ له مشكلته مع روسيا في إقليم دونباس.
يمكن لزيلينسكي أخذ العبرة ليس فقط من ساكاشفيلي، ولكن أيضا من الرئيس الأرميني نيكول باشنيان، الذي غازل الغرب بعد وصوله إلى الحكم عام 2018، فما كان من الكرملين إلا أن باعه إلى تركيا وأذربيجان، فتورّط في حرب دامت شهرا ونصف الشهر، انتهت بتوقيعه صك التنازل عن إقليم ناغورنو كاراباخ، وفي العاصمة الروسية وبوساطة بوتين أيضاً، وربما يخسر عرشه أيضاً، حيث لم تتوقف المظاهرات المطالبة بتنحيته في أرمينيا، وذلك كله والغرب يتفرّج على حليفه الذي يأمل باستخدامه فترة أطول في مناكفة الكرملين.