"أورينت" التي تُخطئ كثيراً
ليس ما هو أثقلُ على المعلّق في الصحافة (والكاتب عموما ربما) من أن يضطرّ إلى تأكيد بديهيّات ذائعة، كأن تنصرف سطور هذه المقالة إلى تنوير قرّائها بأن التدخين يضرّ مرضى الرئة، في جدال مع من يُنكر أمرا كهذا. وأول القول هنا إن انتصارَنا، نحن الصحافيين، للزميل ياسر أبو هلالة، في هجمة قناة أورينت السورية على شخصه، أمرٌ لا يجوز أن يكون اضطرارا. ببساطة، لأن الإعلامي الشهير لم يقترف أمرا مُستنْكَرا، في وجهة نظرِه بشأن طرد مذيعٍ في القناة ضيفا تركيّا من الأستوديو في إسطنبول، بينما كانا يتحاوران، الصحافي يسأل والضيف يجيب. وحتى عندما تزيّد بعض الشيء، وافترض ما افترضَه من أغراضٍ لدى القناة ومالكها في تناول الشأن التركي ومُقام السوريين في تركيا، فهذا كله لا يُجيز للقناة أن تبثّ عن الزميل تقريرا ليس فيه من مهنية الإعلام شيء، يفتري ويقوّل، ويتطاول ويقدَح، بل ويكذِب أيضا، ويخلط نابلا بحابل، فيما كان الأدْعى أن لا تُشغل القناة، وعمرُها نحو 15 عاما، نفسَها بالذي أفضى به ياسر (وغيره)، في مسألة طرد الصحافي ضيفَه، ثم شكوى هذا الضيف للأمن التركي الذي أقدم على توقيف الصحافي ومدير المحطّة في تركيا ساعات، قبل الإفراج عنهما، ثم رفضت المحكمة الشكوى. لقد أصدرت "أورينت" بيانا أوردت فيه ما جرى، وهذا كافٍ، وتضامن كثيرون مع الزميليْن الصحافيين، إلا أن هناك من انتقدوا سلوك المذيع، وهو، في عُرف صاحب هذه الكلمات، سلوكٌ ركيكٌ وغير مهني أبدا، وعندما ينتقده ياسر أبو هلالة، في تغريدة، ينتقد فيها أيضا توقيف هذا الصحافي، فإنه لا يفتعل خصومةً مع أحد، ولا يمالئ السلطة في تركيا، وإنما يستهجن سلوكا شاذّا. وعندما يرى أن "أورينت" تمضي في ما يضرّ السوريين في تركيا، بالكيفيّة التي تُقارب فيها مسألتهم، في أجواء مزاودات سياسيين أتراك ضدّهم، فإنه يُبدي رأيا، اجتهادا منه، لا يليق بالمنصّة التلفزيونية أن تنبري لمهاجمة صاحبِه، بتشنيعاتٍ بائسة. وكان الأوْلى أن تحترم حيثيّتها وسيلة إعلام، وتنصرف إلى شغلها الأساس.
ليست هذه السقطة الثقيلة التي ورّطت "أورينت" فيها نفسَها، بعد عنادها بشأن ما ارتكبه مذيعُها مع ضيفه التركي (محاورة أي ضيف ومجادلته، أيا كان ما يقول، لا يُختَتمان بطردِه والإساءة إليه)، معزولةً عن راهن القناة وتراجع سويّة ما تقدّمه عما كانت عليه، وعمّا وعدت به جمهورَها في السنوات الأولى للثورة السورية. وقد كان صاحب هذه السطور من ضيوف برامجها في دبي، وممن واظبوا على متابعتها ما أمكن. ولئن يحسُن التنويه هنا بكثيرٍ أدّته في التعبير عن أشواق السوريين إلى الخلاص من نظام الطغيان والاستبداد والفساد، فإنه يحسُن التأشير، هنا أيضا، إلى أن انصراف القناة إلى افتعال خصوماتٍ ومعارك لا طائل منها خَصَمَ كثيرا من مكانتها، كما عدم إدراك عاملين فيها أعرافا مهنيّةً في أدائهم شُغلهم (في تركيا). وإذا تفهّم واحدُنا أن للبثّ من دبي، وأن لإقامة مالك القناة هناك، ضرائبهما السياسية والإعلامية المعلومة، فذلكما لا يعنيان الاستغناء عن هوامش غير قليلةٍ ومساحاتٍ غير ضيقة يمكن أن تجدهما القناة لنفسها، فتحافظ على بعض التوازن الذي يُسعفها في تمرير رسالةٍ إعلاميةٍ إلى جمهورها، تنهض على الانتساب للشعب السوري، وحقوقه المؤكّدة في الحرية. وإذا أراد القائمون على القناة انشغالا باستهدافاتٍ في أوساطٍ إعلاميةٍ وحزبيةٍ تركيةٍ ضد اللاجئين السوريين، فلهم هذا من باب حقّهم في حرية الرأي والتعبير، ولم يزعُم أحدٌ أن تركيا من واحات هذه الحرية في العالم. ولكن القصة ليست هنا، وإنما في كيفيّات تناول هذا الأمر كبيرِ الأهمية، وفي الإحاطة بتفاصيله، وفي طرائق مخاطبة المختلَف معهم، سيما ممن يطالبون بطرد السوريين. وعندما لم تنجح "أورينت" في أيٍّ من هذه الأمور، وليس في جعبة كاتب هذه المقالة ما يتعالَم فيه عليها عن الصحيح الذي يحسُن أن تأخُذ به، مهنيا دائما، فإنها ارتدّت إلى منزلةٍ دنيا بين المنصّات والوسائط والمواقع والفضائيات السورية المعارضة، وهو ما لا يسرّنا، نحن الذين يشتهون منافساتٍ مهنيةً واحترافيةً بين كل منتجي أي محتوىً سوريٍّ معارض.
لم تأت السطور أعلاه على صلاتٍ (أو اجتماعات) بين "أورينت" وجهاتٍ (وشخصياتٍ) إسرائيلية، بدعاوى مساعدة الجنوب السوري، فمن بديهيّ البديهيات أنها في هذا الفعل المُدان أحرقت مراكب كثيرة لها قدّام السوريين وغيرهم. ومن بديهيّاتٍ أخرى استجدّت أنها ناطحت ياسر أبو هلالة فخسرت أكثر وأكثر، وهي التي تُسرع القهقرى، عندما تُراكم خطأ بعد خطأ .. للأسف.