أهلاً بهذا التدخل الأجنبي
للحاكم العربي أن يأتي من الأفعال ما يشاء في بلده، أن يؤوّل الدستور بحسب مشيئته، أن يطبخ انتخاباتٍ برلمانيةً كما يريد، وأن يأذن للمخابرات أن تأخذ راحتَها في تلفيق القضايا على من لا ترتاح لهم من عباد الله. له أن يبيع الدجَل إلى شعبه عن حرّياتٍ يتيحها للصحافة، فتنتقد هذه الوزير الفلاني والمسؤول العلاني، وللأحزاب التي لها أن ترشّح منافسا في انتخاباتٍ رئاسيةٍ ليسقُط مشكورا، وللنقابات أن تُصدر البيانات التي ترضيها. وفي الأثناء، تمرُق تعديلاتُ الدستور التي تمدّد ولايات الرئيس إلى ما شاء الله، ويُقترَف التعذيبُ والعسفُ في السجون ومقارّ التحقيق والتوقيف، وتتسيّد تفاهات الإعلام ورداءاته. أما إذا أجاز البرلمان الأوروبي أو "هيومان رايتس ووتش" أو صحيفة واشنطن بوست أو سيناتور في الكونغرس الأميركي لأنفسهم أن يدسّوا أنوفهم في شؤون البلد، كأن يمتعضوا من اعتقالاتٍ أو انتهاكات، فذلك مسٌّ بسيادة الدولة واستقلالية قرارها مرفوض، على الشعب أن يتّحد في مواجهته، وعلى جميع "القوى" (؟) الوطنية أن تُبعد أي مؤاخذاتٍ قد تكون لديها على السلطة، للتصدّي لهذا التدخل الأجنبي المستنكر.
هذا مقطعٌ معهودٌ، وتقليدي، في المشهد العام للحكم في بلادٍ عربيةٍ كثيرة، يرتعش الرئيس فيها من مقترحٍ في لجنةٍ في الكونغرس الأميركي يطالبه بأن يرعوي في هذا الشأن أو غيره، وهو الذي يزدري النواب ومجلسهم في بلده، ولا يكترث بما يتسلّى به هؤلاء من كلام. تنعقد مداولاتٌ في دواليب السلطة لمناقشة تبعات نشر مقالةٍ في "نيويورك تايمز" عن تردّي أحوالٍ معيشيةٍ في البلد، فيما لا يحفل أحدٌ في مواقع المسؤولية بالذي ينكتب من إنشائياتٍ ومظلومياتٍ في صحافة البلد. تحرص الحكومة على التعقيب على تقريرٍ لمنظمة العفو الدولية، فيما لا تُلقي بالا لما يتحدّث عنه ناشطون مواطنون في أمور الحريات والتجاوزات، أو يُكلَّف كتبةٌ ملتحقون بالسلطة منتفعون للردّ عليهم، ورميهم بتشويه سمعة البلاد، والارتباط بالخارج.
ليس وحده المهرجان الكلامي المحتدم حاليا في تونس ضد "التدخل الخارجي" الذي يخرُق سيادة قيس سعيّد على البلاد والعباد مناسبة السطور أعلاه، وإنما أيضا وجوب التحذير البالغ الضرورة من شيوع هذه الثقافة الركيكة التي تحتفل بأورامٍ وطنيةٍ منتفخةٍ في مناهضة أي انتصارٍ خارجيٍّ لقضايا المواطن العربي، وإنْ من مؤسساتٍ ودوائر أجنبيةٍ لنا أكثر من تحفظ وانتقاد عليها في غير مسألة. ببساطة، لأنه لم يكن ممكنا أن يُفرج عبد الفتاح السيسي عن الناشطة المصرية، أميركية الجنسية، آية حجازي، إلا بعد حديث ترامب معه بشأنها، فيطلَق سراحُها بعد تبرئة محكمةٍ مصريةٍ لها من اتهاماتٍ تسبّبت بمكوثها في السجن ثلاث سنوات. ولنا في قولة والدة الشاب الإيطالي القتيل، جوليو ريجيني، إنهم في السجن المصري عذّبوه كما لو كان مصريا، ما لا يبعثُ على الأسى وحسب، وإنما أيضا ما يبعثُ على الإعجاب بحيوية المجتمع الحقوقي والمدني الإيطالي الذي أبقى قضية ريجيني حيّةً، فتتداول محكمةٌ إيطاليةٌ أسماء ضباط أمنٍ مصريين محدّدين بأسمائهم، قد يتم اتهامهم بالمسؤولية المباشرة عن الجريمة. وإذ يحدُث أن يتعاطى الحكمُ في مصر مع تقارير واحتجاجاتٍ ونداءاتٍ وانتقاداتٍ دوليةٍ في المسألة الحقوقية بأذنٍ من طينٍ وأخرى من عجين، فإن أملا باقيا بأن يأتي بنتيجةٍ محمودةٍ طلب 180 نائبا فرنسيا في مجالس منتخبةٍ من السيسي، في رسالةٍ موجهةٍ إليه، الإفراج عن الفلسطيني رامي شعث، المعتقل منذ ثلاث سنوات، وتم تجديد حبسه الاحتياطي 23 مرّة، وقد رُمي باتهاماتٍ سيّارةٍ ملفقة.
يشاغلنا في هذه الآونة قيس سعيّد، وأنصارٌ له بينهم مثقفون ومحامون (!)، بكلام أشبه بالشعوذة الشعبوية عن سيادة تونس ورفض التدخل في شؤونها، ويتواتر على قصر قرطاج مسؤولون وبرلمانيون أوروبيون وأميركيون يطالبون ساكنه بالعودة إلى مؤسّسية الحكم وتمثيليته، بينما يذكّرنا أحمد أبو الغيط بوجودِه، فنلقاه في تونس يعلن مساندة جامعة الدول العربية "إجراءات الرئيس". وفي هذه الغضون التونسية، يعبر خبرٌ يخصّ البلد الأقصى في المشرق العربي، البحرين، موجزُه أن لجنةً في الكونغرس الأميركي طالبت وزارة الخارجية بتقريرٍ مفصلٍ عن التعذيب والانتهاكات في سجون هذا البلد، وتعلن أنها "تشعر بالقلق إزاء معلوماتٍ وأدلة عن انتشار الاحتجاز التعسّفي والتعذيب هناك" ..
نعم للتدخل الخارجي الذي يُحرج أنظمة العسف والتسلّط والركاكة العربية التي أباحت ارتكاباتُها انتظار نفعٍ منه، مأمولٍ ومرتقب.