أن يتكلم زيلينسكي عن الانتصار

28 اغسطس 2022

الرئيس الأوكراني زيلينسكي يتحدّث في كييف في ذكرى استقلال بلاده (24/8/2022/Getty)

+ الخط -

بمناسبة ذكرى استقلال أوكرانيا عن الاتحاد السوفييتي، والتي تزامنت مع مرور ستة أشهر على الحرب الروسية عليها، وقفَ الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، في إحدى ساحات العاصمة كييف، يتحدث بثقة عن نصر ستحققه بلاده في هذه الحرب. وللنصر تعريفاتٌ وحقولٌ لا ترتبط بأرض المعارك وحدها، منها تدمير الدول اقتصادياً. ومن شروط تحقّق النصر هزيمة الخصم، لذلك، يمكن أن نصنف كلام زيلينسكي في هذا المجال في خانة شدّ الأزر ورفع المعنويات، أكثر منه في خانة إمكانية إلحاق الهزيمة بروسيا. أما سبب هذا الاستنتاج فهو محدودية التأثير الذي يمكن أن يُحدِثه الجيش الأوكراني، بسبب تقتير المساعدات العسكرية الغربية المخصّصة له، والتي تتيح له الدفاع لا الهجوم، ما يجعل الانتصار الحقيقي الذي يمكن أن يأمله الأوكرانيون هو وقف الحرب.

ولا ينفي هذا الأمر التبعات الكبيرة التي لحقت بالخصم، أي روسيا، بسبب هذه الحرب. لكنّها تبعات لم تظهر آثارها على الاقتصاد الروسي، أو حتى على القوات الروسية في أوكرانيا، وعلى سمعة الأسلحة الروسية، على الرغم من الخسائر المالية والصدمة التي أحدثتها العقوبات، وكذلك الخسائر العسكرية التي لحقت بهذا الجيش وازدياد تكاليف الحرب، والخسائر البشرية الفادحة مع وصول عدد القتلى من الجنود الروس، وفق تقديرات المخابرات المركزية الأميركية، إلى 15 ألفاً. غير أنّ استمرار الحرب، التي بدأت تأخذ شكل حرب استنزاف، خلافاً للشكل الذي اعتمدته موسكو وأعلنت عنه في اليوم الأول للغزو، وهو مبدأ الحرب الخاطفة، الساحقة والسريعة، يمكن أنّ يغيّر في هذا الواقع، فإذا طال أمد الحرب، وقد كان متوقعاً إعلان موسكو وقف معاركها في يوم النصر على النازية، في 9 مايو/ أيار الماضي، قد تنعكس الخسائر المادية، نتيجة العقوبات وعزلة روسيا وإخراج عدد من مصارفها من نظام سويفت للتداولات المالية الدولية، وفرض حظر جزئي على نفطها، وإمكانية توقفها عن تصدير الغاز، وغيرهما من السلع الاستراتيجية، قد تنعكس جميعها أزماتٍ اقتصادية واجتماعية، والتي يمكن بدورها أن تتسبّب بأزمة سياسية إذا اتّسعت هذه الأزمات وتجذّرت. وفي ظل واقع المعارك الذي يُظهر صعوبة تقدّم القوات الروسية، والتي قيل إنه يجري بواقع أمتارٍ خلال أسابيع بفضل المقاومة الأوكرانية، قد تتدهور سمعة الجيش الروسي، وتلحقها سمعة الأسلحة الروسية فتخسر روسيا زبائنها التقليديين، لتتراكم الخسائر فوق بعضها حتى يتعذر تحملها.

مع معضلة أوكرانيا تظهر ورطة أوروبا ودول الغرب الواقعة بين ناري الخوف من التهديد الروسي، والخشية من قطع إمدادات الطاقة عن القارّة

ولتحقيق النصر الذي يَعِد به زيلينسكي، وتحدّث عنه في أكثر من مناسبة، يحتاج الجيش الأوكراني إلى أسلحة هجومية، إذا لم تكن لها القدرة على إخراج القوات الروسية من المناطق التي احتلتها، فعلى الأقل تحدّ من قدراتها على التقدّم أبعد من هذه المناطق، وتشلّ حركة الطيران الحربي والمُسيَّر. غير أن الغرب الذي يُعدّ المصدر الوحيد لأسلحة الجيش الأوكراني ما زال يتحفَّظ على تزويده بما يطالب به زيلينسكي في خطاباته طوال الوقت. والغرب لا يريد استفزاز الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أكثر، على الرغم من تزويد الجيش الأوكراني بأسلحة دفاع جوي ومضادّات دروع متطوّرة وراجمات صواريخ قصيرة المدى أوقفت التقدّم الروسي. إذ إنّ تزويده بأسلحة هجومية وصواريخ بعيدة المدى سيُعدُّ بالنسبة لروسيا تدخلاً من حلف شمال الأطلسي (الناتو) في الحرب، وبالتالي يكون مبرّراً لها لتوسيع دائرتها، فتشمل دولاً أخرى مثل ليتوانيا وغيرها من دول البلطيق.

من هنا، تبدو المعضلة كبيرة بالنسبة لأوكرانيا، والتي تعدّ نفسها خط دفاعٍ أول عن أوروبا في وجه التوسّع الروسي. ويتحدّث رئيسها باستمرار عن عدم تجاوب الغرب مع مطالبه لوقف الزحف الروسي تجاه القارّة الأوروبية. ومع معضلة أوكرانيا تظهر ورطة أوروبا ودول الغرب الواقعة بين ناري الخوف من التهديد الروسي، والخشية من قطع إمدادات الطاقة عن القارّة، وإدخالها في أزماتٍ عديدة. لذلك، ربما لا يبقى سوى البحث عن خياراتٍ أخرى تتّخذها أوكرانيا وتدعمها أوروبا والغرب من دون التورّط المباشر، ومنها الارتقاء بصناعة السلاح الأوكراني الفعال.

تخلو جُعَبُ الجميع من سيناريوهاتٍ خاصة بالحرب في أوكرانيا وبأوان نهايتها وبتوقع المنتصر فيها

ومع ذلك، يبقى السؤال الأهم: هل يمكن لأوكرانيا أن تنهض بصناعتها العسكرية في ظل المعارك، أو تحوِّل المعركة إلى معركة غير تقليدية، وبأكلافٍ قليلة؟ قد تتمكّن أوكرانيا من فعل ذلك عبر أسراب كبيرة من الطائرات المُسيَّرة التي يمكن أن تبدأ بصناعتها وتدخلها إلى أرض المعركة، خصوصاً في ظل الحديث عن إمكانية إقامة مصنع لطائرات "بيرقدار" التركية المُسيَّرة على الأراضي الأوكرانية. إذا ما اعتمدت أوكرانيا هذه الاستراتيجية، ربما تقلب موازين القوى، وتغير شكل المعركة، فتضرب نقاط تمركز القوات الروسية وخطوط إمدادها، وتوقف خطط التقدم نحو كييف وأوديسا. إضافة إلى ذلك، تفرض على الروس، في مرحلة تالية، الانسحاب من الأراضي التي احتلّوها جنوب البلاد، ولكن ليس ترك دونباس ولوهانسك ودونيتسك، لأنّ هذه المناطق الاستراتيجية تُعدّ أساس مشروع "نوفاراسيا" الإمبراطوري الذي يعمل الرئيس الروسي وفق هَدْيِه، ولا يبدو مستعدّاً للتخلي عنه وتَكبُّد الهزيمة، حتى لو تراجع اقتصاد بلاده إلى الحضيض، وفشل الشعب الروسي في إيجاد ما يقتات به.

لهذه الأسباب، تخلو جُعَبُ الجميع من سيناريوهاتٍ خاصة بالحرب وبأوان نهايتها وبتوقع المنتصر فيها، ولا يبقى، بالتالي، سوى سيناريو إنهائها. إذ يمكن أن يكون وقفها الانتصار الأهم لأوكرانيا، من أجل تجنيبها مزيداً من الدمار والخسائر البشرية والاقتصادية، علاوة على وقف سياسة قضم الأراضي التي يتبعها الروس. وهذه ستكون من الإنجازات التي يمكن أن يتحدّث عنها زيلينسكي في ذكرى استقلال بلاده المقبلة. أما غيرها من الخيارات، قد لا يكون زيلينسكي في موقع رئيس البلاد، وقد لا تكون البلاد هي ذاتها التي كانت قبل الغزو، بل أقاليم توزّعتها الدول التي ترى في كلّ إقليم أوكراني مجاور لها، أقليةً عليها التدخل فيه وضمّه لحمايته من "تنمُّر" الأقاليم الأخرى.

46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.