أن يبلغ الاحتقان درجة الغليان
التعريف السوسيولوجي غير الدقيق لحالة القلق التي تصاحب الإنسان، بدرجات متفاوتة الشدّة، ولا تبرحه، من أول تفتح وعيه إلى يوم مماته، يشخّص هذه الحالة، على أنها نتاج مزيج متراكم من مشاعر الشك والتحسّب والخوف وقلة الحيلة، وكل ما ينسلّ من تحت عباءة المصاعب اليومية، وقوس الهموم المحتشدة في الفضاء العام، تلك التي تتعمّق غوْراً وتزداد اتّساعاً، كلما ضاق مجال الرؤية وازداد الوعي وارتفعت درجة الحسّ بالمسؤولية، ناهيك عن تفاقم تكاليف الحياة من جهة، وتضاؤل الخيارات المتاحة من جهة مقابلة.
ولعل الاحتقان العام الذي يفيض به الخطاب الاجتماعي الرائج في هذه الآونة، بكل ما ينطوي عليه من تعبيراتٍ بالغة الحدّة، وكراهية ورغبة في الانتقام، وميول عنفية تخرج أحياناً عن السيطرة، هو أحد تجليات حالة القلق التي تستبدّ بعامة الناس والنخب وأولي الأمر، كل حسب منظوره ومصالحه ومسؤولياته، حيث يتقاطع هؤلاء جميعاً عند نقطة الخشية من عقابيل التطوّرات المستقبلية المجهولة في الزمان والمكان، بما فيها المفاجآت السياسية والاقتصادية، ويتفرّقون أيدي سبأ حيال الأولويات والرهانات والرؤى والمعالجات.
ومثلما يسخن الماء في المرجل، ويتحول عند درجة حرارة عالية إلى بخار ذي طاقة انفجارية، أو قوة يمكن التحكّم بها وتطويعها لتشغيل المولّدات الحرارية، وجرّ عجلة قطار متعدّد العربات، كذلك يشتدّ الاحتقان شيئاً فشيئاً، وتسخن حالة القلق على النطاقين الخاص والعام، ويكتسب هذا الخليط، مع مرور الوقت، خاصيّة البخار وقوته التدميرية، إن لم يُحسن الأفراد مداواته بالصبر الجميل وقدر قليل من رباطة الجأش، ويتمكّن أصحاب القرار وذوو المسؤوليات الكبار، في اللحظة المناسبة، من تنفيس طنجرة الضغط محكمة الإغلاق هذه، وتُبادر المرجعيات المعنية قبل ذلك إلى الإسراع في احتواء الموقف، من خلال تخفيض شعلة اللهب المتّقدة في الصدور والشارع السياسي والأسواق.
هناك فيض من السوابق في غير مكان واحد من العالم العربي، تقصّ علينا ببلاغة حالات احتقان أدّت، كل منها على انفراد، إلى انفجار اجتماعي لا تزال مضاعفاته ماثلة، وأفضت تداعياتها إلى نشوب أزمات سياسية كانت عواملها مثل جمرات كامنة تحت الرماد، حيث بدا الاحتقان هنا وهناك أشبه بمرجل البخار محكم الإغلاق، تسرّب الهواء اللافح تدريجياً من خلال فتحة متوارية تحت الغطاء، ثم انطلق هائجاً، بطاقة هائلة، لم يكن في وسع سائق القطار السيطرة عليها بعد أن تحوّل الماء المضغوط إلى بخار، وصار ما صار.
وما ينطبق على الدول في مثل هذا الوضع الموصوف للتوّ ينطبق على الأفراد سواء بسواء. إذ بقدر ما ينجح المرء في التحكّم بدرجة قلقه المشروع، حتى لا نقول الصحي في بعض الأحيان، ويدير أزماته الحياتية مع المضارع من دون هلع أو رُهاب، ويتحسّب للمستقبل بلا تطيّر، بقدر ما يتمكّن من الحفاظ على الماء الدافئ في قرارة النفس المثخنة تحت درجة الغليان، وتنفيس بعض ما يمور في مرجل الذات من بخارٍ كان قد تخلّق جرّاء تجرّع مرارات إخفاق متكرّر، وتزايد وزن أثقال تنوء عن حملها القلوب، وتفاقم الضغط، واضطرام أوار الاشتعالات الداخلية المقيمة في النفوس ما أقام الليل والنهار.
في الأمثال البليغة الفائضة بالحكمة، والملخّصة خبرات أجيال متعاقبة راكمت تجاربها الغنية في معمعان الحياة، جاء أن أخطر الأمراض، بما فيها العُضال، مصدرها الخوف ذاته، وأن القلق وقصر ذات اليد، وهما رافعتا الاحتقان، يقتل الهرّة ذات التسعة أرواح، فيما قالت العرب إن ثلثي الهرم همّ وغم، وثلثه الباقي التقدّم في السن. الأمر الذي يقدّم لنا وصفة ناجعة، لتبديد ما قد يتلبّد في الصدور من ضغوط تولّد الاحتقان، وما قد يغشي النفوس من توتّرات نفسية، باتت في هذه الأيام بمثابة القاسم المشترك الأعظم لكل الناس البالغين الراشدين، بمن فيهم أرباب الأسر الكبيرة، وذوو الدخل المحدود، والمديرون التنفيذيون والباعة الجائلون.
وأحسب أن الاحتقان، وهو الابن الشرعي للقلق، يُعتبر في أطواره الأولية صحّياً ومشروعاً، وأخذه بتؤدة واعتدال يعادل أخذ جرعة من دواء فعّال، وأن الاحتفاظ بقليله يشكّل شرطاً لازماً من شروط البقاء، بل ويُعدّ من مصادر التحوّط اللازم إزاء الانتكاسات المفاجئة، ومن روافع التكيّف الذي لا مفرّ منه قبالة متغيّرات الحياة المتقلبة تقلّب الصيف والشتاء، إلّا أنّ انتقاله إلى طوْرٍ عاصف من النزق وردود أفعال حادّة وٍمبالغ بها، يحيله إلى مرض أشد فتكاً من المرض الخبيث.