أن نشاهد "حرب البعثَيْن"
قبل أكثر من عامين، كان ضجيج أخبار كوفيد 19 مُضجِرا، لكن خبرا باهظ الطرافة انسلّ، في الأثناء، انفردت به "الأخبار" البيروتية، أشاع بعض التسرية في نفوس من صادفوه، وربما صرَفهم عن كآبة أنباء الجائحة، أنّ القيادة القُطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي (السوري) أصدرت قرارا حلّت بموجبه، وبشكلٍ نهائيٍّ، القيادةَ القومية للحزب، وأن ممتلكات القيادة القومية من العقارات والسيارات والمكاتب ستُنقل، بجميع محتوياتها، إلى ملاك القيادة القُطرية. وذلك لضعف نشاط القيادة القومية وغيابها عن ساحة العمل الحزبي عقودا طويلة، وتنفيذا لقانونٍ يحظُر على الأحزاب المؤسّسة في سورية افتتاح فروع خارجية لها. ... مصادر الفكاهة في ذلك النبأ الذي ضجّ بمفارقاتٍ غزيرةٍ في أن الحديث في سورية عن قيادةٍ قوميةٍ وأخرى قُطريةٍ لحزب البعث فلكلوريٌّ، لا تتعيّن فيه المسمّيات على مجرى ما تنطق به، أقلّه منذ نُكب هذا البلد باستبداد حكم عائلة الأسد وعصاباتٍ أمنيةٍ متحكّمةٍ في مصائر الناس، وإنْ تتعاقب مؤتمراتٌ للحزب وطلائعه وشبيبته وقياداته، وتَستهلك، وإنْ في غضون الخراب الراهن، ذلك الكلام عن الأمة العربية التي يعمل "البعث" على وحدتها، فيما المنجزُ الباهر لاستبداد حافظ الأسد ونجله الصدعُ الفادح بين سوريين علويين وسوريين سنّة في الحارة الواحدة.
ليست مناسبةُ استدعاء النكتة أعلاه من أرشيف الخراب السياسي المديد في سورية اكتمال 60 عاما، قبل أيام، على حكم "البعث" هناك، ومرور 20 عاما على حرب الاحتلال الأميركي الذي أنهى حكم "البعث" في العراق، وإنما بثّ تلفزيون العربي، ضمن البرنامج الشهري المميّز فيه، "كواليس"، الأسبوع الماضي، حلقة "حرب البعثَيْن"، والتي تتبّعت الصراع المرير بين حافظ الأسد وصدّام حسين. والتشديد هنا على صفته هذه لنزع أي إيحاءٍ بأنه كان بين حزبيْن أو خياريْن سياسيين أو نهجَيْن، فأولى البديهيات في درس العلاقات العربية العربية أن هذه العلاقات، حسنةً كانت أو سيئة، محكومةٌ بالشخصي بين الرؤساء والأمراء والملوك. ولمّا قال عبد الحليم خدّام، للزميل علي الظفيري في "الجزيرة"، إن صدّام وياسر عرفات (بالترتيب) أكثر من كان يكرههما حافظ الأسد في العالم، أوجَز القصة كلها، قصة دماءٍ ومواجهاتٍ ونكاياتٍ وحروبٍ وسفالاتٍ واغتيالاتٍ (في لبنان وغيره) بلا عدد، أعملَت في المشرق العربي، وفي قضية فلسطين، وفي غير شأنٍ، ما لم يكن في وسع مؤامرات الصهيونية والإمبريالية العالميّتين أن تفعلاه في الأمة.
لا تُشاهد حلقة "حرب البعثَيْن" (من إنتاج تلفزيون العربي) في غضون القاع الراهن الذي يقيم فيه النظام الرسمي العربي بعيونٍ ترى وقائع مضت وانقضت، في أزمنة "البعث"، في سورية والعراق، وصولا إلى مقاومة تمثال صدّام أكثر من صاحبِه (بتعبير جوزف سماحة) عند خلعِه في ساحة الفردوس في بغداد، وإلى ضرب تماثيل لحافظ الأسد في السويداء وإدلب وحماه في أثناء الثورة السورية (المغدورة)، وإنما تُشاهد الحلقة بعين الناظر في الحاضر، في البؤس السياسي والاجتماعي في العراق، في علوّ بيارق الطائفية المقيتة هناك، في التآكل الوطني الذي يُنهك سورية منذ اختار النظام الرصاص وغاز السارين والصواريخ ضد ساخطين على ظلمه وفسادِه ودجله. والزّعم هنا إن الخراب العالي في البلديْن الجاريْن، باهتراء الدولة في كلٍّ منهما، وفي الرايات الإيرانية والمليشياوية فيهما، من نتاج تلك الحرب بين بعثَيْهما الآفلَيْن، لما استبدّت بالأسد الأب خُيلاء زعامة الأمة، وبلْعِ لبنان واللبنانيين، وإخضاعِ الفلسطينيين لأوهامه، وقد هادنَ السعودية وحرصَ على رضا الخليج، ورأى صدّام شخصا كريها، يزاحمه في الخُيلاء نفسها، لمّا أراد هذا حربا ينتصر فيها على الفرس، وخوفا منه في الخليج، وإعلاما يتغنّى ببطولاته وعروبيته، في عمّان ولندن وباريس و...، فرأى حافظ الأسد شخصا بغيضا، يُزاحمه في قذائف الكلام ضد إسرائيل، فكان لا بد من أن تتنوّع مناورات الحرب بينهما وألاعيبها، وأن تُخفق محاولةٌ للملك حسين في وقفها، وقد تدثّرت بلباسٍ بعثيٍّ لم ينفع اثنيْهما في تغطية ما كانا عليه من عُظامٍ أجوف.
لعلّ أحسن ما كان في الحلقة التلفزيونية أنها لم تكترث بأُزعومتي قيادةٍ قوميةٍ وأخرى قُطْرية، ولم تُلقِ بالا للخبر الذي صودِف إبّان جائحة كوفيد، ولم تنشغل كثيرا بالساتر البعثي لدى رجلَيْن خرّبا بلدَيْن عربيين عظيمين. لعلّ من أحسن ما فيها أنها أضاءت على ماضٍ كان من أسباب خرابٍ راهنٍ يقيم بين ظهرانينا.