أن تنتصر فلسطين في برلين
كان الذي شهدَه مهرجان برلين السينمائي، أخيراً، بشأن فلسطين باهراً. كان انتصاراً لها على المنظور الصهيوني، المتحكّم (ربما) في رؤية السلطة في ألمانيا في الموضوع الفلسطيني، ومعها القوى النافذة المعنيّة هناك بالثقافة والفنون. وفي الوُسع البناء كثيراً على الهزيمة المشهودة التي تلقّتاها، هذه وتلك... باختصار، لم يكن في مقدور إدارة المهرجان، رفيع المكانة بين تظاهرات السينما في العالم، والمؤسّسات الداعمة له، الحكومية والمحلية الألمانية، أن تصنع شيئاً أمام حضور الكوفيّات الفلسطينية على أكتاف فنّانين وضيوف ومدعوين في المهرجان، وكذا الدعوات، في أثناء فعالياته، إلى وقف الحرب في غزّة. وهذان أمران لا تطيقهما السلطات في برلين، ولا يستحسنهما القائمون على التظاهرة الكبرى، ليس بزعم إن المهرجان فنّي (نصرة أوكرانيا وذمّ إيران مُباحان في دورات سابقة)، وإنما لأن الانتصار لعدوان إسرائيل على الشعب الفلسطيني في غزّة مقيم في مدارك هؤلاء، قناعة بأنّ دولة الاحتلال تدافع عن نفسها. وقد أصاب الصديق سليم البيك في ذهابه إلى أن حفل ختام المهرجان كان أقرب إلى مناسبةٍ تضامنيةٍ عالميةٍ مع القضية الفلسطينية، فكلماتٌ فيه قوبلت بالتصفيق، وقد هاجمت ما تقترفه إسرائيل في غزّة، على ما فعلت عضو لجنة التحكيم الممثلة الإيطالية جازمين ترينكا، والمخرج الأميركي، بن راسل، الذي تسلّم جائزة فيلمه والكوفية الفلسطينية على كتفيه، وسمع الحضور منه أنه مع الحياة وضد الإبادة، وينادي بوقف إطلاق النار. وهتفت الفرنسية السنغالية ماتي ديوب، وهي تتسلّم جائزة الدبّ الذهبي عن فيلم وثائقي لها، إنها تقف مع فلسطين.
ليس هذا المشهد عاديّاً، سيّما أنه في برلين، حيث الحكومة (واليمين والأحزاب) الأشدّ دعماً لإسرائيل في العدوان الجاري. وحيث صحافةٌ يُفترض فيها شيءٌ من الحياء، عندما نعرف أنّ صحيفة محلية هناك تُسائِل (!) مديرة المهرجان، مارييته ريسينبيك، عن سبب اختيار الممثلة الكينية المكسيكية، لوبيتا نيونغو، رئيسةً للجنة التحكيم، وهي التي وقّعت، مع آخرين، على رسالةٍ إلى الرئيس بايدن، تطالبه بالضغط على إسرائيل لوقف إطلاق النار. ولا يُقابَل بغير السخرية أن تضطرّ وزيرة الثقافة الألمانية، كلوديا روث، إلى الدفاع عن "تصفيقها" في حفل الختام، عند نيْل فيلم "لا أرض أخرى" جائزة أفضل فيلم وثائقي، بالقول إنها صفّقت للمخرج الإسرائيلي، يوفال أبراهام، وليس لشريكه الفلسطيني، باسل عدرا، بعد أن طالبتْها الصحافة وعدة أحزاب وشخصياتٌ بالاستقالة، بسبب كلماتٍ ألقيت في الحفل "حملت كراهيةً عميقةً لإسرائيل" و"لم تهاجم إرهاب حماس". وكان بديعاً من الفلسطيني عدرا دعوتُه، في الحفل، ألمانيا إلى وقف تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، وجاء عظيم الأهمية من أبراهام إدانته، أمام الحضور "نظام الفصل العنصري" الذي يعاني منه الفلسطينيون، مشيراً إلى "عدم المساواة بينه وبين زميله عدرا في الضفة الغربية"، ودعا إلى وقف إطلاق النار في غزّة.
من شواهد وفيرة على انتصار فلسطين في مهرجان برلين الاستفزاز الذي استشعرتْه إدارته، وجعلها تُصدِر بياناً "تتبرّأ" فيه من "الانتقادات الأحادية" لإسرائيل في أثناء فعاليات العروض وحفل الختام الذي أعلنت الوزيرة فتح تحقيقٍ في الذي جرى فيه (!). وكان عظيم الدلالة أن يرفض المدير الفني للمهرجان، الإيطالي كارلو شاتريان، مع مسؤول البرمجة الكندي مارك بيرانسون، في بيانٍ لهما "اللاسامية سلاحاً وأداة لغايات سياسية".
كأنه لم يكن مهرجاناً عالمياً للسينما، بل معركة بين منتصرين لقيم العدالة ولفلسطين وقوى إسناد أعمى لإسرائيل، يمثّل أولئك فنّانون (بينهم يهود) مخلصون للجمال، ويمثّل هؤلاء سياسيون وإعلاميون ألمان ذاقوا هزيمةً في هذه التظاهرة السينمائية العالمية في بلدهم أشدّ من التي لقيها نظراءُ لهم في معرض فرانكفورت للكتاب في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
على صلةٍ بالذي أدهشنا في برلين، تُمزّق بريطانية صورة اللورد بلفور، في كلية في جامعة كامبردج، لأنه "السبب في خسارة الفلسطينيين وطنهم". تقول الفيلسوفة الأميركية (اليهودية) جوديت باتلر (1956) إن الحادث في غزّة إبادة جماعية، وإن أحداث 7 أكتوبر (آلمتْها كما قالت) فعلُ مقاومة مسلّحة. يقول الفيلسوف الفرنسي (اليهودي)، إدغار موران، إنه مذهولٌ لموقف العالم تجاه الجريمة ضد شعب فلسطين.