أن تغلق روسيا صفحة بريغوجين
مهما تكن نتيجة التحقيقات التي ستخرُج بها لجان وزارة الداخلية الروسية، ومهما تكن مفردات التقارير التي ستكتبها هيئة الطيران المدني الروسية، ومهما تكن أيضاً محتويات البيانات والتصريحات التي ستصدر عن القادة الروس، الجميع متيّقن أن زعيم شركة فاغنر، رجل الأعمال الروسي (أو طبّاخ بوتين كما يطلق عليه) قد اغتيل، وأن بريغوجين نفسه، لو كان حياً وسُئل عن عملية اغتياله لما أبدى أي استغراب، لأنه يعلم ويدرك، وله خبرة واسعة بصديق بالأمس وعدو اليوم الرئيس فلاديمير بوتين، المعروف عنه أنه لا يتسامح مع من يغدر به أو يخطئ بحقّه، فكيف وأن بريغوجين صرّح إن روسيا بحاجة لرئيس جديد، بل وأعلن تمرّداً عسكرياً، وزحف بقواته نحو العاصمة موسكو، في غضون حربٍ خاسرةٍ يقودها بوتين في أوكرانيا؟
خرج بريغوجين من سجون الاتحاد السوفييتي عام 1990 بعدما أمضى فيها تسع سنوات لجرائم ارتكبها، ثم افتتح شركةً لبيع النقانق، ثم مطعماً كبيراً في سان بطرسبورغ، ومع تعاقده على تأمين طعام الكرملين أطلق عليه لقب "طبّاخ بوتين"، ثم أسس مع ديميتري أوتكين في 2014 مجموعة فاغنر المسلحة الناشطة في أوكرانيا وسورية وليبيا وأفريقيا كذلك. وفرض نفسه قائداً عاماً لها، والحرب الروسية في أوكرانيا وقبلها في سورية منحت لقائد مجموعة فاغنر المسلحة يفغيني بريغوجين أن يفرض نفسه لاعباً أساسياً في أروقة السياسة الروسية.
وبعد معارك وُصفت بالأقسى والأقوى، أعلن بريغوجين، في مايو/ أيار الماضي، سيطرة "فاغنر" على مدينة باخموت في شرق أوكرانيا، معلناً انتصاراً غاب كثيراً عن الجيش الروسي في تلك الحرب، لكن الحرب الأخرى التي كان يقودها بريغوجين على جبهة الصراع مع وزير الدفاع سيرغي شويغو ورئيس الأركان فاليري غيراسيموف تفاقمت، واتهمهما بريغوجين بمنع الذخائر والإمدادات عنه بشكل مقصود. وذهب لاحقاً إلى أبعد من ذلك، عندما صرّح بأن شويغو حاول اغتياله عبر قصف جوي على قوات فاغنر، وأقسم على إيقافه مع رئيس أركانه بالقوة. قالت مصادر، لاحقاً، إن قائد القوات الجوية الروسية، الجنرال سوروفيكين، هو الذي سرّب المعلومة عن قرار شويغو قصف "فاغنر"، ولاحقاً أعلن سوروفيكين دعمه التمرّد الذي قادة بريغوجين ضد القيادة العسكرية الروسية.
بعد حديث عن إنشاء شركة قتال خاصة روسية جديدة تحت مسمّى "ستورش - زد"، أدرك بريغوجين أنه وصل إلى نهاية المطاف، وأن عدّاد عمره بدأ بالعدّ التنازلي
أعلن بريغوجين عن حركة تمرّده في الربع الأخير من شهر يونيو/ حزيران الماضي ضد وزير الدفاع الروسي شويغو ورئيس الأركان غيراسيموف، ورماهما بأبشع النعوت، ونسب إليهما مسؤولية كل الإخفاقات التي حصلت على جبهات الروس في الحرب الأوكرانية، واتهمهما بالفساد والكذب والتضليل بالتقارير العسكرية التي يرفعانها إلى الرئيس بوتين، ثم ضم إليهما الرئيس بوتين بلائحة الهجوم. والعارف بالعلاقة القوية التي كانت تجمع الرئيس بوتين برئيس "فاغنر" بريغوجين، يستغرب إقدام الأخير على تلك الخطوة، وهو يعلم أن إعلانه التمرّد على بوتين هو بمثابة التوقيع على قرار إعدامه والسير في طريق اللاعودة. وأن الاتفاق الذي تم توقيعه مع بوتين برعاية ووساطة من الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو لن يُعيد المياه إلى مجاريها بتاتاً، وأن قبول بريغوجين بشروط قاسية فُرضت عليه، ومنها الخيارات الثلاثة التي وضعت أمام أعضاء "فاغنر" (توقيع عقود مع وزارة الدفاع الروسية، أو اعتزال القتال، أو الخروج إلى المنفى في بيلاروسيا)، لن يعيد جدار الثقة الذي تهدّم مع الرئيس بوتين. وأن تصريحات الرجل في أفريقيا وليبيا عن مجد روسيا والتعاظم المستقبلي للدور الروسي في أفريقيا في ظل سياسة الرئيس بوتين لم تغيّر من الواقع شيئا ولم تعد العلاقة الطيبة مع بوتين، ولم تبدّل طريقة التخلص من أعداء بوتين، ومنهم بريغوجين، وتلك حقيقة كان يدركها الأخير.
مؤكّد أن قائد "فاغنر"، وبعد الاتفاق الذي رعاه الرئيس البيلاروسي، اتخذ مزيداً من إجراءات الحماية والتمويه والتضليل، بما يتعلق بتنقلاته وتحرّكاته والطاقم المرافق له، وحتى حراسته الشخصية، لعلمه وإدراكه بمدى قدرة الاستخبارات الروسية على الخرق وعلى الانصياع التام لأوامر بوتين، من دون أي تفكير بالعواقب، وأنه أصبح هدفاً مؤكّداً لهذه الاستخبارات وللقوات الخاصة، والتي توكل إليها عادة قضايا التصفيات والاغتيالات والمهام الخاصة وذات السرّية الكبيرة.
أيضاً، يُدرك بريغوجين أن الصفحة السوداء والتاريخ الأسود الذي تحمله شركة فاغنر، بعد كل المهام القذرة التي نفّذتها لصالح الاستخبارات الروسية ووزارة الدفاع، سواء في سورية أو أفريقيا أو أوكرانيا وغيرها، قضية تؤرق الرئيس بوتين، ويبحث عن التخلص منها وطي صفحتها. وبعد توقيع معظم عناصر "فاغنر" ومجموعاتها عقود عمل مع وزارة الدفاع الروسية، بعد حركة التمرّد أخيرا، وبعد حديث عن إنشاء شركة قتال خاصة روسية جديدة تحت مسمّى "ستورش - زد"، أدرك بريغوجين أنه وصل إلى نهاية المطاف، وأن عدّاد عمره بدأ بالعدّ التنازلي.
تُظهر المشاهد التي تناقلتها وسائل الإعلام للطائرة التي قتل فيها بريغوجين ومؤسّس الشركة مع قائدها العسكري ديميتري أوتكين، وهي تسقُط وتترنّح بالسماء، بوضوح، أنها تعرّضت لانفجار داخلي أو لقذيفة من الخارج، وليس في الأمر عطل فنّي يحد من قيادتها، بل كان واضحاً أنها خارج السيطرة بشكل كامل لتنفجر بعد 26 دقيقة من الإقلاع. وهذا يعني أن الكتلة الرئيسية من الوقود ما زالت في خزّاناتها، وأن أي عملية اصطدامٍ بالأرض ستجعل من بدن الطائرة وما فيها كتله معادن منصهرة بدرجة حرارةٍ عالية، تجعل من نجاة أي راكبٍ عليها ضرباً من الخيال والمعجزات، وهو ما تريدُه الجهة التي تريد التخلّص من "فاغنر" ومؤسّسها وتاريخها الأسود.