أنْزِلْ الديكتاتور الذي فوق ظهرك
هل تختلف مع الرأي القائل إن الشعب التركي بلغ من النضج السياسي ما يؤهله لممارسة حقوقه في الديمقراطية، والمناعة ضد تزييف إرادته والتلاعب به في عمليات الاقتراع والانتخاب؟
هل تتفق معي في أن الشعب التركي أظهر تفوقاً نادر المثال، في أصعب امتحان، حين وجد نفسه في مواجهة الدبابة، فقرّر أن ينتفض دفاعاً عن نظام سياسي واجتماعي، كان على وشك السقوط، في انقلاب عسكري؟
هل تتذكر تلك البسالة الشعبية المذهلة في الذود عن مدنية الدولة، وديمقراطيتها، في يوليو/ تموز من العام الماضي، حين دحرت الجماهير التركية انقلاباً عسكرياً، مصنوعاً في الخارج، قادماً على ظهور مجموعة جنرالاتٍ، انقضّوا على السلطة، واحتلوا مؤسسات الدولة، وبدا أن النظام المدني قد سقط؟
هل لا تزال ذاكرتك تحتفظ بمشاهد الرجال والنساء يتصدّون بأجسادهم لجنازير الدبابات، ويسطّرون بالدم ملحمة مقاومة شعبية لمحاولة اختطاف حالةٍ ديمقراطية مدنية حديثة؟!
في ذلك الوقت، سجلت أنني لم أكن أتخيّل أنه سيأتي يوم، وأرى مقولة "الشعب هو المعلم" مجسّدةً على أرض الواقع، تلك المقولة التي سمعناها، أطفالاً، ضمن قائمة المحفوظات الوطنية الصمّاء، والتي تحولت، على يد الشعب التركي، في ساعات الانقلاب العصيبة إلى واقعٍ معاش، يتحرّك على الأرض، فتراه الأبصار وتدركه البصائر.
لقد تفوّق الشعب التركي على جميع مكونات الدولة في التصدّي "المبدئي" لمحاولة الانقلاب الدامية، وخلف الشعب، سارت النخب السياسية والحزبية، فاكتملت عناصر صورةٍ يمكن تلخيصها في أن الأتراك نضجوا ديمقراطياً إلى الحدّ الذي باتوا معه لا يحتاجون وقتاً للتفكير، أو إجراء الحسابات، قبل أن يعلنوا للكافة أنهم يرفضون أن يشربوا الديمقراطية من فوهة مدافع عسكر الانقلاب.
كان السؤال المطروح على التركي: هل تريد الارتداد إلى عالم الديكتاتوريات العسكرية، أم تفضّل الاستمرار في براح الديمقراطية والحداثة؟
وكانت الإجابة المكتوبة بالدم: لا للعودة إلى حظيرة العسكرة، وتألقت مشاهد الاصطفاف الوطني الواعي، أظهرت فيها المعارضة التركية جدارتها السياسية المدهشة، فكانت واحدة من ملاحم انتصار المعنى والقيمة على الجنزير والرصاصة.
السؤال الآن: هل مثل هذا الشعب بحاجة إلى أوصياء على اختياراته السياسية المستقبلية، فيما يخص الاستفتاء على التحول إلى النظام الرئاسي؟
غير أن الضرورة المنطقية تضع سؤالا أسبق من هذا: هل كان هذا الشعب مخدّراً، أو مغيباً، أو مضحوكاً عليه، وهو يضع أصواته في صندوق الانتخاب لمصلحة حزب الأغلبية، ورجب طيب أردوغان، وقد أعلنوا صراحة في أثناء الحملة الانتخابية، أنهم متجهون إلى تعديل الدستور، ذهاباً إلى نظام رئاسي؟
تدهشك هذه الأصوات التي تمارس نوعاً من الوصاية المسبقة على إرادة الشعب التركي، فتختار له النظام الذي تفضله (البرلماني) من دون أن تترك له حرية تقرير مصيره، وتزداد الدهشة أكثر عندما تنتقل هذه الفوقية المنتفخة من دوائر سياسية وإعلامية غربية إلى نخب عربية، ومصرية، لا تزال، حتى هذه اللحظة، قادرةً على أن تقيم ظهرها الذي تقوّس واعوّج من حمل الديكتاتورية العسكرية إلى السلطة، مشياً فوق جثة الديمقراطية والدولة المدنية.
هي واحدةٌ من مساخر العصر، أن يتقمص الراسبون في امتحان احترام القيم الديمقراطية في مجتمعهم دور المعلمين والناصحين والأوصياء على إرادة شعب آخر، وخصوصا حين يكون هذا الشعب حاصلاً على العلامة الكاملة في امتحانٍ أصعب، ومن ثم يستطيع ممارسة الاختيار الواعي، فيسقط ما يريد إسقاطه، ويمرّر ما يراه صالحاً له.
هذه نكتة تفوق، في قدرتها على توليد الضحك، كاريكاتير الثنائي الراحل، أحمد رجب ومصطفى حسن، حين رسما شخصيتهما الشهيرة "الكحيت" ذلك البائس، الفقير المعدم، مهلهل الثياب، حافي القدمين، الغارق في العنجهية، يعطي دروساً في الاستثمار الناجح، ويصفق للرأسمالية، ويلعن الاشتراكية، ويحاضر في أفضل الطرق لتناول الكافيار، ويدلي بدلوه في خطوط الموضة والموسيقى الكلاسيكية.
عزيزي الكحيت: من خدم في بلاط الاستبداد العسكري ليس مؤهلاً لتعليم الناس أصول الديمقراطية.