أميركا وحالة "التيه الاستراتيجي"
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.
خاب ظن المعتقدين بأن تعيد حكمة الشيوخ بعض الرشد إلى الإدارة الأميركية ، بقيادة الرئيس الديمقراطي جو بايدن (79 عاما)، بعد أربع سنوات عجاف من حكم الجمهوري الشعبوي دونالد ترامب، فلا شيء من ذلك تحقق، رغم اتجاه ولاية السادس والأربعين نحو الانتصاف، بلا بوصلة تضبط اتجاهات الدبلوماسية الأميركية في العالم.
درَج المراقبون على قراءة التحرّكات الأميركية وتحليلها في إطار مدرسة الواقعية السياسية، معزَّزة بتقليد "الغموض الاستراتيجي" الذي ابتدعه الرئيس دوايت أيزنهاور؛ زمن الحرب الباردة، والقائم على الغموض والضبابية في جوانب عديدة من السياسة الخارجية. لكن واقع الدبلوماسية مع الرئيس بايدن أضحى منفلتا من هذه المرجعية، فحال الإدارة الأميركية، على أكثر من صعيد وجبهة، متراوحٌ ما بين الإقدام هنا، والإحجام هناك، والتلجلج هنالك، في ما يشبه "التيه الاستراتيجي".
تفتقد السياسة الخارجية في عهد بايدن رؤية ناظمة، فبعد أن قرّر الرجل إسقاط منطقة الشرق الأوسط من دائرة الاهتمام، إذ لم تشهد الفترة المنقضية من حكمه أي تلميحٍ أو تصريح بشأنها، قبل أن تتحوّل فجأة، بسبب الحرب الروسية في أوكرانيا، إلى عصبون، تراهن عليه واشنطن في تنفيذ استراتيجيتها، فيمّم بايدن إلى السعودية؛ الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، لحضور أعمال قمّة حول الأمن والتنمية، بمشاركة دول الخليج، بالإضافة إلى مصر والعراق والأردن، وكله طموح في تتويج هذه العودة القسرية بمشروع "ناتو عربي" (صهيوني) ضد الخطر الإيراني، ناهيك عن كونه الضمان الأوفى لتحصين المنطقة من الوقوع بين أيادي الصينيين أو الروس.
انفضَّ الجمع في جدة، من دون أن يحقق الرئيس الأميركي أمانيه وراء الزيارة، بعدما صار مخطّط الحلف الدفاعي في خبر كان؛ ما يعني عدم التحاق أي دولة عربية جديدة بقطار التطبيع حاليا، إذ المشروع برمته مجرّد قنطرة لتسهيل اختراق سكّة قطار التطبيع عواصم عربية جديدة، فيما انقلب التصدّي لأطماع الحلف المضاد إلى النقيض، بعد المكالمة التي أجراها ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، للتأكيد على استمرار التنسيق بشأن أسواق الطاقة في دائرة منظمة أوبك.
يبقى استخدام سلاح العقوبات ضد روسيا صورة أخرى للشرود الأميركي
حتى أوروبا التي استبشرت خيرا بفوز بايدن، الذي أسدل الستار على ولايةٍ رئاسيةٍ قوامها تقلبات مزاج الرئيس ترامب، كان لها نصيب من التيه الأميركي، ففي الأشهر الأولى من ولاية الرئيس، وعلى حين غرّة، قررت الإدارة الأميركية، في تصرّف أحادي الجانب، الانسحاب بشكل نهائي من أفغانستان، داعية الأفغان إلى "القتال من أجل بلادهم". حدثَ ذلك كله، من دون أي تنسيق أو تشاور مع قادة أوروبا، خلال عملية سحب القوات الأجنبية من أفغانستان.
وقبل ذلك، شكَل إنشاء تحالف أوكوس بين الثلاثي الأميركي البريطاني الأسترالي طعنة في الظهر بالنسبة إلى فرنسا؛ الحليف المركزي لواشنطن في المعسكر الغربي. إذ جاء على حساب إلغاء عقد بيع 12 غواصة تقليدية، من إنتاج مجموعة نافال غروب الفرنسية، لصالح الجيش الأسترالي، بعدما ضمنت كامبيرا؛ بموجب الحلف الأنغلوساكسوني الجديد، التزوّد بغواصات أميركية، تعمل بالطاقة النووية. استنتجت باريس، ومعها عواصم في الاتحاد الأوروبي، من هذا الأسلوب، أن إدارة الرئيس بايدن تتجه، بشكل غير مباشر، نحو الانسلاخ من التحالفات التقليدية، ما يجعلها شريكا من الدرجة الثانية أو حتى الثالثة.
ما أن انطلق الهجوم الروسي على أوكرانيا، حتى عادت الولايات المتحدة إلى القارّة العجوز، لتنتعش الأحلاف القديمة؛ وتحديدا حلف الناتو، بحثا عن السبل الكفيلة لمواجهة المارد الروسي. واستعادت اللغة الدبلوماسية في واشنطن عبارات من قبيل: "وحدة الولايات المتحدة وأوروبا" و "الإجماع الغربي".. وذلك خوفا من تكرار سيناريو شبه جزيرة القرم، عام 2014، الذي كان نتيجة التردّد الأميركي، وعدم القدرة على اتخاذ القرارات الحاسمة حينها.
تتوالى سقطات إدارة بايدن، كاشفة للعالم حجم التيه الاستراتيجي الذي تتخبط فيه واشنطن
يبقى استخدام سلاح العقوبات ضد روسيا صورة أخرى للشرود الأميركي، فالظاهر أن الإدارة الأميركية لم تدرك بعد مدى صمود الدول والشعوب ومقاومتهما هذه الأداة، الأكثر استخداما في تاريخ الولايات المتحدة (109 مرّات)، فقد كانت نتائج مردود سياسة العقوبات في الدول التي استعملت ضدها مثل: كوبا (1962) وفيتنام (1975) وإيران (1979) والسودان (1988) ... عكسية، وهذا ما تتجه الوقائع في روسيا نحو إثباته من جديد. لا سيما بعد تمكُن موسكو من تجاوز الصدمة الأولية للعقوبات، نحو تحقيق مداخيل قياسية في مجال الطاقة، بمبلغ يومي وصل إلى 883 مليون يورو يوميا، في مايو/ أيار الماضي، بعدما كان عند حدود 633 مليون يورو عن الفترة ذاتها من السنة الماضية، ما ساعدها على تخفيف وطأة الانهيار الاقتصادي الذي يراهن عليه الغرب لحسم المعركة على الأرض.
تتجه واشنطن نحو إثبات صدْق مقولة إن "العقوبات سلاح يجرح حامله"، بالإمعان في توظيفه دافعة العالم نحو مزيد من تأزيم الأوضاع، ما حدا بزعماء منظمة البريكس، في القمة التي ترأستها الصين، بتقنية الفيديو في يونيو/ حزيران الماضي، إلى إيجاد صيغ للفكاك من العقوبات، بالدفع نحو تفضيل التبادل بالعملات الوطنية بديلا عن الدولار الأميركي، ناهيك عن الشروع في تفعيل خطة "بريكس بلاس" التوسّعية، بالتداول في التحاق أعضاء جدد (الأرجنتين وإيران)، ما ينذر بسحب البساط من تحت أرجل واشنطن، بتجزيء الاقتصاد العالمي بين حلفين مستقبلا.
تتوالى سقطات إدارة الرئيس بايدن ملفا تلو آخر، كاشفة للعالم حجم التيه الاستراتيجي الذي تتخبط فيه واشنطن، دفاعا عن مجد يتهدّده الزوال يوما بعد آخر، بسبب أخطاء مهندسي السياسة الخارجية الأميركية قبل مناكفة المتربّصين بها في الخارج (الصين وروسيا).
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.