أغنيات أحمد دومة في الانفرادي
كان نزول شريط لعمرو دياب، أو لمحمّد فؤاد، ثمّ لمحمّد منير، أيّام الجامعة سبباً للفرحة. كان للأغنيات هيبة، ولشراء الشريط طعم. كان "مغنواتية" تلك الأيام يحملون صوتنا ورغبتنا في التعبير عن أنفسنا وعن جيلنا وعن مشاعرنا المختلفة، وكان لهذا ثمنٌ، ثمنُ الشريط الذي يعني "التحويش" أو الاحتيال من أجل الحصول على سبعة جنيهات "مرّة واحدة"، وكان لسماعه أيضاً ثمنٌ، البحث عن صديق لديه غرفة حرّة، أو بيت يخلو من سلطة الكبار ساعة في الأقلّ، حتى نتمكَّن من رفع الصوت، صوت الغناء، وصوتنا معه، فإذا منحتنا الأقدار ساعتَين سمعنا مرَّتَين، أو ثلاثاً أو عشراً، من دون ملل. لم يكن الطرب دافعنا، فهو في مكان آخر، لكنّها الرغبة في عيش زماننا كما هو، لا كما رسمه آخرون.
تابعتُ أخبار صدور ديوان "كيرلي" للشاعر والناشط السياسي، أحمد دومة، بعد خروجه من السجن. ودقَّ قلبي بصوت هذه الأيام، كان صدور الديوان أكبر من مُجرَّد حدث أدبي. هكذا رأيته، وهكذا رآه سجّان دومة، وانزعج منه، مسجون انفرادياً دفع عشر سنوات من عمره ثمناً لرفع صوته، ثمّ يخرج فيكون أوّل ما يفعل هو رفع صوته مكتوباً ومنشوراً. كتب دومة ما كتب في سجنه الإنفرادي، وحاول تهريبه ونجح، وحاول نشره ونجح، هاجمت قوات الأمن جناحَ دار المرايا في معرض القاهرة للكتاب عام 2021، وصادرت نُسخَ ديوان السجين أحمد دومة، وقبضوا على صاحب الدار، وأخذوه إلى مقرّ أمن الدولة، وعاقبوه. بعد هذا التاريخ بعامَين، يخرج دومة، رغم أنف سجّانه، وينشر الديوان نفسه، في الدار نفسها. عاد السجان مرّةً أخرى وصادر الديوان، ومنع نزوله المكتبات، بل أصدر بعض الفتاوى الكوميدية، عبر أدواته من أراجوزات المشايخ، أنّ مُجرَّد صدور الديوان حرامٌ شرعاً. لم يكن ذلك كلّه خوفاً من قصائد دومة طبعاً، إنّما من دلالة صدورها، فـ"العيال بتوع الثورة" مكانهم السجون والمعتقلات والمصحّات النفسية، وليس مكانهم دور النشر وعناوين الأخبار ومنصّات القراءة.
فشل السجّان في مهمته، وتحوّلت الهتافات أغنياتٍ، وسقف الزنزانة أفقاً مفتوحاً على السماء السابعة. فهل هذا هو كلّ شيء؟... ربما لدى السجّان وشيوخه. أما لدينا، لدى القارئ ولدى شركاء الحلم، حلم الكتابة، وحلم الثورة، فالأمر مختلف. ما فات كلّه هامشي أمام الديوان نفسه، الزنزانة نفسها، مُجرَّد هامش في متن القصيدة. هكذا بدت في شعر دومة، تراه ولا يكاد يراها، لم ينشغل دومة بسجنه أو بسجّانه، إنّما بنفسه، بتجربته، بحبيبته، بجيله، وبالله الذي لم يكفَّ عن مناجاته سائلاً ومندهشاً ومعاتباً، تفيض أبياته بالأمل وبالحُبّ، ولا تخلو من التسليم. لو عرف السجّان الشعر، لأدرك أنّ غيابه عن ديوان دومة أكثر إهانة له من حضوره طاغيةً عاجزاً عن كلّ شيء سوى سرقة الأعمار.
عزيزي السجّان، صاحب السلطة، صاحب مصر: هذا بلاغ في المدعو أحمد دومة، فقد أهانك أكثر ممّا تتصوّر، أو تفهم، غيّبته عن أيّامه فـغيَّبكَ عن قصائدِه، تذهب الأيّام ولا تذهب القصائد، ليس الحلّ في سجن الشاعر فهو مُحفِّز لخياله، وليس في القبض على قصائده فهو سبيل إلى رواجها، إنّما في قراءتها، فهل جرَّبتَ يوماً أن تقرأ؟...
اسمع يا سيّدي: "بأغمض عينيّ فباشوفنا/ أنا باقرا على المكتب/ وناسي سيجارة في إيديا/ وأنت كل كم ثانية/ تروحي وتيجي حواليا/ عشان أتلمّ وأجيلك/ وأنا، من غير ما أورّيلك/ مخبي بالكتاب وشّي/ وباضحك من صميم قلبي/ على مكرك ومن غشّي/ ومن طبع العناد فيّ/ عيوني ولسّه قافلها/ ورحلتنا في أوّلها/ ووجهة عمرنا فلسطين/ في أوّل مرّة نتلاقى/ عيوننا كانوا متواعدين/ يقيموا الليل على سورها/ وفجراً، يضوّوا قنديلها/ ورغم إنّ الطريق مسدود/ وخطّ السير ما هوش دوغري/ أنا عَ العهد من صغري/ ورحلة عمرنا بكرة/ أنا وأنت نكمّلها". و"يا بلاد بتخسر قبل بدء الحرب/ أبطال علينا وأحذية للغرب/ خاينين، فيا سعد العدو بيكم/ أنتوا الهزيمة، وأنتوا أصل الكرب".