أغنى رجل في العالم
"المال في يد من لا رؤية له مهلكة"، فكيف إذا اجتمع على "شوال" المال انعدام الرؤية والضمير معا؟ في الثقافة الشعبية المصرية مفردة "جعان"، في أحد السياقات، سُبّة، ليس الجوع البيولوجي، أو المفروض، قهرا، جرّاء فساد الحاكمين، أو خراب ذممهم، كما أنه ليس جوع المحاصَرين، كما هو الحال في غزّة التي يتساقط أهلها، أهلنا، في شوارعها، جوعاً وعطشاً، ويموتون كمداً، جرّاء حصار العدو من ناحية والنظام المصري من أخرى. إنما الجوع السبّة سلوك... ثقافة، قد يمارسها إقطاعي، وينجو منها أجير لا يملك سوى الستر.
لدينا تجربة طويلة مع تسلط "الجياع" في مصر وعليها. أمثلة، لا تكفيها المساحة، من تواريخ قديمة ووسطى وحديثة، ملوك وأمراء ورؤساء ووزراء وحواش، لم تزدهم السلطة إلا جوعاً، بدا في سلوكهم، الشخصي والسياسي، ليس في أساليب النهب وحدها، إنما أيضاً في معاملة المنهوبين، ضحايا الجياع من الطغاة، إذ يريد الجائع، في كل تفصيلة، أن يثبت لمن تحته بأنهم جياع وبأنه الشبعان الوحيد، ولا يشبع من تجويعهم، ولا يشبع من إذلالهم، ولا يشبع من تركيعهم، ولا يشبع من بيعِهم وشرائهم، إفقارهم وإتخامهم، إحيائهم أو نشرهم بالمناشير، ذلك لأنه لا ولن يشبع، فالجوع، في تكوينه، جبلة.
"طعن الخناجر ولا حكم الخسيس فيا".. هكذا يقول أحمد فؤاد نجم في قصيدة مستوحاة، للمفارقة، من الفلكلور الشعبي الفلسطيني، ذلك لأن استبداد الخسيسين أشدّ وطأة ومرارةً وألما، أشدّ وحشية وشراسة وانتقاما، ومن دون سببٍ مفهوم أو معقول، ماذا فعل ضحايا المستبد؟ لا شيء سوى أنهم موجودون، وفي وجودهم تذكيرٌ دائم للخسيس بخسّته، إذ إن المقارنة بينه وبين أي موجود، بشر أو حجر، ليست في صالحه، من هنا يطغى، وبعنف.
لا، لن أطيل أكثر، ولن أمنحك أمثلة بالأسماء والصور، لحكّام أو ذيول حكّام، أو مثقفين أو أشباه مثقفين، أو فنّانين أو أشباح فنّانين، إنما سأحدّثك عمن تحبّه ويحبّك، فنحن نضيع أوقاتا أكثر من اللازم في مطاردة من نكرههم، فنغفل، من دون مبرّر، عمّن نحبّهم، هل رأيت عم ربيع الفاكهاني الصعيدي "الشبعان"؟ يقف عم ربيع بـ"فرشة" في الشارع لبيع البرتقال، ليس له محلّ أو دكّان أو مكانٌ مخصوصٌ في السوق، في مصر نسمّي العم ربيع وأمثاله من الباحثين عن رزق يومهم "على باب الله"، وهو وصفٌ مكثفٌ يختصر الكثير، الكثير من الأحوال، والكثير من الآمال، والكثير من سير الرجال، أما عمّ ربيع نفسه، الرجل لا البائع، فهو المصري "الجدع".. هذه مفردةٌ أخرى شديدة التكثيف، لا يغني عنها سواها، فهي من تلك المفردات التي منحنا الجاحظ إذنا بتضمينها في نصوصنا المكتوبة "إذا احتيج إلى ذلك"، أو التي انحاز إليها يحيى حقّي لأنه لم يجد "شحنة" المعنى في غيرها، عم ربيع الجدع، الذي يطارد خبز يومه، بتعبير محمود درويش، ولو تخلف عنه يوما جاع، لكنه ممتلئ بالشبع، الشبع الحقيقي، الذي لا يجوع صاحبه أبدا، كل برتقالة على "فرشة" عم ربيع رغيف من قوت عياله، لكنهم مثل أبيهم "جدعان" و"شبعانين"، فلا خوف عليهم، ولا هم يحزنون، ولا هم يخونون، ولا هم يغنّون ويرقصون ويشمتون ويتجاهلون موت "الناس" و"أولاد الناس". ثم يفلسفون التخلّي والخذلان ويبرّرونه، جوعا، بالمصلحة الوطنية. شاهد عمّ ربيع شاحنات الإغاثة المتّجهة إلى أهلنا في غزّة فحمل فاكهته إليها، من دون تفكير، من دون حسابات، من دون توازنات، ومن دون أن يعرف أن "كاميرا" تصوّره.
لا يعرف عمّ ربيع هتافات النخب في المظاهرات، لا يحفظها، وربما لا يفهمها، لكنه هتف في سائق الشاحنة ومساعده: "سلّموا لي على الحبايب". وحين سأله أحد المذيعين: وماذا تعرف عن القضية؟ قال: أشاهدهم يوميا في التلفزيون. يشاهدهم بعد يوم عمل طاحن، وفي الشارع. (من يشاهد حفلات الترفيه إذن؟) يسأله ماذا تتمنّى فيقول: الستر. ... هذا أغنى رجل في العالم.