أطلقوا سراح معبر رفح
ليس من الطبيعي أبداً أن تجلس في الساعات الأخيرة من السنة التي تلملم أوراقها من دون أن تُجري جرداً في عقلك لأهم الأحداث التي مرّت بك. وليس من الطبيعي ألّا تتمنّى أمنياتٍ، أو تضع خططاً. والطبيعي حين تمرّ بتجربةٍ تخرج من دائرة الخصوصية؛ لتصبح تجربة، أو معاناة عامة، أن تودّع السنة الجديدة بأمنية وضع حدٍّ لها. وهكذا وجدتني أعود بذاكرتي إلى رحلتي الأخيرة التي مررت خلالها من معبر رفح المصنَّف معبراً إنسانيّاً، وبأنّه المتنفس الوحيد لقطاع غزة. وخروجي منه في الربع الأخير من السنة التي مضت كان بمثابة المعجزة، والعودة عبره كانت بمثابة حرب لاستنزاف قوة صبرك وانتظارك واستهلاك طاقتك وجلَدك، لكنّي شعرتُ بإحكام الدائرة، بحصار مِن أمام، ومِن وراء. كنتُ أتمنى أن أستشعر الفرق الحقيقي، حين الخروج من مَحْبَس غزة، إلى مصر، بإرادتها الحرّة، وانتماء سلطاتها، ولو بالروح المعنوية، وأمان الاستقبال، والعبور إلى وجهتي، وأن يترك ذلك الدور أثراً ملموساً، أو هامشاً من الخيارات الواقعية، لكنّي صُدمت، واكتشفت الخديعة أمامي بوصف معبر رفح بأنّه ممر إنساني، لأنّه لم يلعب هذا الدور قط، بل كان ولا يزال ممرَّ الانتظار والاحتمالات المرعبة وتبعاتها المخيفة.
بعد طول انتظار، خرجت من غزّة عبر منفذ رفح البرّي كما يطلق عليه أيضاً، وبعد سنواتٍ طويلةٍ من الحصار، إذ كانت آخر مرّة خرجت فيها عبره إلى العالم في صيف العام 2006. وهكذا، وبعدما اجتزته كانت لدي الهواجس التي من شأنها أن تقلِّل، بل تجهض، فرحتي بالخروج من السجن، وإن في إجازة قصيرة، وفرحتي أنّني سأرى ابني بعد اغترابه عني. لكنّ الهواجس كانت تلاحقني، وأهمُّها أن يغلق هذا المنفذ، وأنا على سفر، وأضطر لأصبح من العالقين الذين يناشدون الجهات المسؤولة، عبر وسائل الإعلام، بإعادة فتحه بسبب ما لحقهم من ضرر. ولذلك ظلّ هذا الهاجس يلاحقني، شهرين؛ حتى وقع بالفعل، فما إن اقترب موعد عودتي، وكنت قد حجزت تذكرة الطائرة ذهاباً وإياباً، حتى أُعلِن عن إغلاق المعبر. ولم تذكر مصر الأسباب الحقيقية، فيما قالت مصادر إنّها أسبابٌ تقنية، وعزا الجانب الفلسطيني السبب إلى قنص جندي إسرائيلي في مواجهات أخيرة على الحدود، وقد أغلقت السلطات المصرية المتنفس الوحيد؛ احتجاجاً على هذا الحادث، بعدما تم الاتفاق على هدنة، بواسطة مصر، قبل ثلاثة أشهر من ذلك الحدث، وبعدما تعرَّض قطاع غزة لجولة عدوان وحشية، استمرت قرابة 11 يوماً.
تخيّل أن تعلق سيدة على وشك الوضع وسط زحمة الطريق، وكما شاهدنا في الأفلام العربية الكوميدية، ويضطر السائقون والركاب لإتمام عملية الولادة في داخل السيارة التي تقلِّها. وقد كانت تلك المشاهد تجعلنا ننقلب على ظهورنا من الضحك. لكنّ الإعلان عن إغلاق المنفذ البرّي الهام والأوحد كلفني الكثير وقتها، ما جعل ذلك الحدث من أقسى المواقف التي مررت بها خلال سنة 2021 على الإطلاق، بدءاً من خسارة رحلتي على الطائرة والعودة من مطار إسطنبول والإذلال الذي تعرّضت له في المطار من الموظفين الذين سمحوا لجميع ركّاب الطائرة بالصعود، فيما سمعت عبارة جافّة باردة، تعني أنّ الفلسطيني ممنوع. والمقصد أنّ السلطات المصرية قد أبلغت المطارات في العالم بعدم السماح لحملة جوازات السلطة الفلسطينية الذين سيمرّون من مطار القاهرة إلى منفذ رفح بركوب الطائرات، حتى يُعلن عن استئناف العمل بالمنفذ، ضاربين عرض الحائط بمصالح المتنقلين؛ ما يؤكّد أنّ ربط السياسة، أو العمل المقاوم بالأصحّ، بالقضايا التي تهم الناس أمر خطير، في حاجة لحلّ جذري.
المعبر أو المنفذ الذي يطلق عليه أنّه معبر إنساني لم يكن كذلك، قطّ. ولو كان لظلّ يقوم بدوره، ولكان أكثر رأفةً بالمرضى والمسنِّين، والذين تدبروا بالكاد تكلفة السفر، والذين سيعودون من المطارات، بعد إجراءات إذلالٍ مباشرةٍ ووجاهيةٍ طالما عاشوها في بلادهم من العدو الحقيقي المحتل.