أطفال بلا طفولة
مما أذكر من روايات أمّي، رحمها الله، عمّا مرّ بها وخلّف لديها كوابيس سنوات بعيدة، أنه في 1948، وحين كانت أمّي طفلة شقراء على كتف جدّتي حنطية البشرة، ويتخذ الجميع طريقه نحو غزّة بمحاذاة شاطئ البحر، أوقف جنود صهاينة جدّتي، وحاولوا انتزاع الطفلة من بين يديها، بسبب شكوكهم أن أمّها قد اختطفتها من إحدى عوائلهم، وهي في طريقها إلى الهرب صوب غزّة، لولا أن تعالى صراخ الطفلة، وتشبّثت بتلابيب أمّها، وظلّت تهتف باسمها، ما دعاهم إلى تركها تمضي، فظلّت تلك الحادثة تؤثّر بأمّي، وتجعلها تنام بين ذراعي أمّها حتى وصلت إلى سن المراهقة، حسبما اعترفت وهي لا تنسى قسوة الذراعين اللتيْن حاولتا انتزاعها من فوق كتف أمانها.
وفي حادثةٍ لا تُنسى أيضاً، تخلّت أم عن رضيعتها الباكية، وقدّمتها كبش فداء لجمع يزيد عن مائة نازح كانوا يتسلّلون ليلاً صوب غزّة نازحين من قراهم، فألقت بها في إحدى الآبار كيلا يجلب صوتُ بكائها الجنود الذين يلاحقون الناس الفارّين، والذين أصبحوا لاجئين في غزّة. ورغم تقدّم الأم في السّن حتى بلغت أرذله، إلا أنها ما زالت تبكي رضيعتها التي قتلتها بيديها لكي ينجو الكبار المهلوعون.
واليوم أنت تتابع ما يجري بقلبٍ راجف وعيونٍ هلعة، وتكتشف أنّ اليوم يشبه البارحة، وكأن التاريخ الماكر لا يحلو له الصدق إلا معنا فيكرّر مأساتنا بحذافيرها، وإنْ تغيّرت الوجوه، فاليوم تحديداً يعيد أبناء الأحفاد سيرة الأجداد. تخيّل هذه المتسلسلة للأجيال، فأبنائي يعيشون ما مرّ بأجدادي في عام النكبة، ولا أجد اختلافاً إلا بعض الحداثة في نقل الخبر، وإن لم تفعل الحداثة شيئاً أمام عالم أصمّ، وبقيت الرواية المحكيّة والمكتوبة التي تناقلناها من أجدادنا هي الشريك الأول لصوت وصورة ينافسهما ما يُطلق عليه "التريند"، فكم من خبرٍ عن فاجعة لطفل فلسطيني ذاع أياماً ثم طواه النسيان، مثل واقعة طلاق ممثلة أو زواج مطرب وسيم تلهث خلفه الحسناوات.
واليوم، عليك أن تكون على يقينٍ أن اتّساع رقعة الإعلام بكل صوره لم يفعل شيئاً لهذه الطفولة البريئة المعذّبة وأنت تخصّ الطفولة لأنها فئةٌ بلا ذنب، ولم تتّخذ قراراً في حياتها لا لحربٍ أو سلام، ولذلك، ومنذ قرون طويلة، وحين خرج الرسول محمّد ليقاتل أعداءه بالسيوف، وليس بالصواريخ والطائرات، فقد حفر الخنادق وجعل النساء والأطفال خلفها لكي يحميهم ولم يترك ثغرة لكي لا تتعرّض القوارير وفلذات الأكباد للخطر. ولكن مع كل هذا التقدّم والتشدّق بحقوق النساء والأطفال من المؤسسات والمنظمّات، لم تفلح إحداهما على أرض الواقع في حماية طفل أو إسكات جوعه على الأقل.
عليك الآن أن تضرب كفّاً بكفّ، وأنت ترى الأطفال في غزّة يدفعون الثمن غالياً في هذه الحرب الطاحنة، فقد كتب عليهم الموت الآني أو الموت البطيء المنظّم من خلال الجوع والبرد والنزوح وفقدان دفء للأسرة، فهناك إحصائيات سريعة عن آلاف الأطفال الذين أصبحوا بلا آباء أو أمّهات والذين وصلوا إلى المشافي وحيدين بعد انتشالهم من بين الأنقاض أو بعد أن تاهوا عن ذويهم خلال رحلة نزوح شاقّة ومرعبة.
وعليك بعد أن تضرب كفّيك أسفاً أن تتساءل ماذا لو عاش هؤلاء الأطفال في أرض سلام وتترك لخيالك المتعب أن يرسم صورة لحياتهم وطريقة نشأتهم ونفسيّاتهم وسلوكهم وتمدّ بصرك إلى خيال أوسع، فتراهم ينقذون البشرية من كلّ هذا السواد والظلم المتوارث والمتعاقب، فطفلك هو نتاج زرعك وهذه الحرب أو المذبحة أو المحرقة كما يُطلق عليها لن تنبئ بأجيال قادمة سويّة وبنّاءة ومعطاءة، بل هناك أجيالٌ ناقمة مبتورة المشاعر ومنتهكة الحقوق لن تفعل شيئاً لتبني، ولكنها ستعيث فساداً وتنشر شرّاً فوق هذه الأرض.
فمما أذكر من تاريخ الأطفال الغزّيين ضحايا الحروب، حكاية أحد الأطفال الذي فقدته عائلته في أثناء رحلة هروب إبّان النكبة، فعثر عليه بعض البدو الرّحالة الذين حملوه معهم وقاموا بتربيته وتعليمه فنون تجارتهم، وحين التقى مصادفةً بوالديه تبرّآ منه بعد أن تحوّل الطفل البريء إلى تاجر مخدّرات ومهرّب سلاح، وهذه الحادثة ليست بالطبع مستوحاة من أحد أفلام عادل إمام، ولكنها وبكل تأكيد نتاج نكبة مرّ عليها أكثر من ثلاثة أرباع عام.