أشياء صغيرة مبهجة من فلسطين وإليها
بمواجهة الانهيارات المتتابعة في الجدران المقاومة للتطبيع لدى طبقة رجال الدين، وفي طبقات المثقفين والإعلاميين، بل والقيادات السياسية عالية الصوت، لا يزال المواطن العربي البسيط حائط الصدّ الأخير لكسر هجمات التصهين الكامل، بإشاراتٍ بسيطةٍ وعفويةٍ إلى فلسطين ومنها، تقول إنها قضية تستعصي على الذوبان والنسيان، حتى لو طبّعت كل الأنظمة. وتطيح هذه الإشارات العفوية كل مخطّطات تمييع القضية أو تمرير التطبيع مغلفًا بعبارات أنيقة عن حق الشعب الفلسطيني في الحياة، وتلقّف كل الإفك الدبلوماسي والإعلامي الرائج هذه الأيام، وتجعله والعدم سواء.
وجّه وزير الخارجية الصهيوني، إيلي كوهين، رسائل إلى الجماهير العربية والمسلمة عن اقتراب تحقيق التطبيع الشامل بين تل أبيب والرياض، باعتباره المفتاح السحري لتحويل الشرق الأوسط إلى جنّة. منحت صحيفة إيلاف وزير الخارجية الليكودي العتيد كل هذه المساحة، ليصول ويجول ويوزّع الوعود والوعيد والهدايا والحوافز على الأنظمة والشعوب، ويتحدّث، بكل ثقةٍ، عن إمكانية صناعة التاريخ مشاركًة بين السعودية وإسرائيل وتغيير وجه الشرق الأوسط والعالم.
جاء الردّ على تخرّصات كوهين سريعاً من القاهرة، إذ تنشر الصحافة العبرية أن إدارة أحد الفنادق المصرية طردت عارضة أزياء صهيونية كانت مدعوّة من مطرب راب أميركي، لحضور الحفلة التي تقرر إلغاؤها في اللحظات الأخيرة. وبحسب ما تمت ترجمته عن الصحف الإسرائيلية، وصلت عارضة الأزياء، شاي زانكو، إلى مصر لحضور حفل موسيقي لمغني الراب الأميركي، ترافيس سكوت، بدعوة منه، إلا أنه جرى إلغاء الحفل الموسيقي، فقرّرت العارضة الاستفادة من وجودها في مصر بزيارة المواقع السياحية، إلا أنه في غضون يوم تقريبًا من وصولها، اكتشف الفندق الذي تقيم فيه أنها إسرائيلية، وعندما لم يكن معها طاقم "ترافيس سكوت"، طُلب منها مغادرة الفندق على الفور، وتم اصطحابها إلى مطار القاهرة مباشرة".
صحيحٌ أن مواقع مصرية لم تهتم بخبر طردها من الفندق، عادت ونشرت بحفاوة تصريحاتٍ لمسؤول في وزارة السياحة المصرية عن بدء تحقيق فوري في الواقعة لمعرفة الفندق المشار إليه، واستدعاء مديره لمساءلته، غير أن ذلك لا يغيّر من أنه لا يزال ثمّة ما يدعو إلى البهجة والاطمئنان على سلامة الوجدان الشعبي من ملوّثات التطبيع الرسمي. ويمكن الزعم إن هذه مسألة لا تقتصر على الشعب المصري، بل تشاركه فيها الشعوب العربية كافة، من المحيط إلى الخليج، كلٌّ يعبر عن مناعته ضد سموم السياسة الرسمية في هامش التعبير المتاح له، والذي يضيق ويتّسع باختلاف الموقع الجغرافي.
في هذا السياق، يبدو لافتًا الإصرار على محاولة تنظيم فعاليات مندّدة بالتطبيع، كما فعل الشعب المغربي، على الرغم من احتفال النظام بالحصول على دعم دبلوماسي صهيوني فيما يخصّ قضية الصحراء، وكذا إفراد صحف مغربية صفحات كاملة لمعلقين صهاينة يدعمون الرباط، ويهاجمون الجزائر بشأن القضية ذاتها.
لا يمكن كذلك تجاهل تلك الانتفاضة العظيمة لجماهير فريق الوحدات الأردني التي طالبت بعدم خوض الفريق مباراته أمام فريق شباب الأهلي الإماراتي في البطولة الآسيوية، كون الفريق الإماراتي يضم لاعبًا من عرب 48 سبق له تمثيل منتخب الكيان الصهيوني. فضلًا عن أن لدى الفريق الإماراتي نفسه برتوكولات تعاون مع أندية إسرائيلية... صحيح أن إدارة النادي قرّرت السباحة مع تيار التطبيع بحجج شديدة السذاجة، غير أن موقف الجمهور يظلّ التعبير الأسلم عن الوجدان العربي.
يعبّر هذا الحسّ الشعبي المستعصي على مخطّطات التآلف مع التطبيع عن نفسه كذلك في مواقف وبطولات للألعاب الفردية، على غرار ما فعل لاعبون من الكويت ومصر والجزائر، الأمر الذي يؤكّد بشكلٍ متجدّد أن الهوّة شاسعة بين سياسات الأنظمة ومواقف الشعوب، على الرغم من القمع المتواصل لكل أشكال مناهضة التطبيع في الشارع العربي.
الشاهد أن هناك مواقف وإشارات شعبية قد تبدو بسيطة، إلا أنها شديدة الأهمية وبالغة الدلالة على أن قطار التطبيع لن يدهس روح الشعوب، حتى لو انطلق بأقصى سرعته من حيفا المحتلة إلى المدينة المنوّرة، كما يبشّر به بنيامين نتنياهو، أو كما حلم به شيمون بيريز في شرق أوسطه الجديد.. من هذه الإشارات الباعثة على البهجة أن تجد لمحاتٍ من تراث الراحل العظيم عبد الوهاب المسيري تمر أمامك يوميًا عبر صفحات شبان صغار على مواقع التواصل الاجتماعي، لتعلن للصهاينة بكل بلاغة، وبعد أكثر من 44 عامًا من تسيير قطارات التطبيع: لن تمرّوا.