أسوأ ما قيل عن فلسطين
"شدّدت في حديثي مع هيرتسوغ على ما توليه تركيا من أهمية للمكانة التاريخية للقدس والحفاظ على الهوية الدينية للمسجد الأقصى وقدسيته". .. هكذا صرح الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بعد استقباله رئيس الكيان الصهيوني، إسحاق هيرتسوغ، فيما كانت التظاهرات تجوب شوارع أنقرة، وعدّة مدن تركية، احتجاجًا على الزيارة، وتنديدًا بما اشتملت عليه من مظاهر حفاوةٍ غير مسبوقةٍ برئيس دولة الاحتلال، فهل هذا كل ما هنالك عن قضية فلسطين في مفاوضات الرئيس التركي مع ضيفه الصهيوني؟
الإجابات تأتي من عديد المصادر السياسية والإعلامية، ومنها ما كشفت عنه قناة "كان" الرسمية الإسرائيلية، أنّ هرتسوغ طلب من أردوغان العمل ضد أنشطة حركة حماس التي تنطلق من الأراضي التركية، في حين طرح الرئيس التركي مسألة تدشين أنبوب لنقل الغاز إلى أوروبا عبر تركيا، وأنّ الجانبين اتفقا على تشكيل هيئةٍ مشتركةٍ لحلّ الخلافات العالقة بين الجانبين، ومنع تفجّر خلافات جديدة.
إذن، المطروح بحسب المعلن حتى الآن هو: "حماس" مقابل الغاز، أو وقف الأنشطة الداعمة للمقاومة الفلسطينية في تركيا، مقابل تلبية رغبة أردوغان في أن يمرّ أنبوب الغاز الإسرائيلي من بلاده متجهًا إلى أوروبا.
اختزال القضية في مسألة الهوية التاريخية والدينية للمسجد الأقصى يفرغ موضوع الكفاح الوطني الفلسطيني من محتواه، ويفقده جوهره الأخلاقي، ويحوّله من نضالٍ من أجل التحرّر الوطني، واستعادة الأرض التي يحتلها استعمارٌ لقيط، إلى، فقط، الحفاظ على المقدسات الإسلامية، الواقعة تحت هيمنة الاحتلال الصهيوني وسلطته، وأزعم إنه ليس أسوأ من ذلك مقاربًة لقضية فلسطين التي هي ليست صراعًا دينيًا، فقط، بل هي، قبل ذلك وبعده، قضية استرداد حقوق ومقاومة استعمار صريح، هو نتيجة لتواطؤ دولي على الشعب الفلسطيني، الذي تكفل له كل المواثيق الدولية حق الكفاح والمقاومة من أجل تحرير أراضيه.
لو رجعت بالذاكرة سنوات قليلة، وبالتحديد إلى بداية شروع الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، في تنفيذ خطته لتهويد القدس العربية المحتلة إلى الأبد، ستجد أنّ البعد الديني كان حاضرًا، أيضًا في مخطط ترامب واليمين الصهيوني المتطرّف لابتلاع حقوق الشعب الفلسطيني في أراضيه، حيث نشرت CNN الأميركية في ذلك الوقت مقالًا للكاتبة الأميركية والباحثة في الشؤون الدينية، ديانا باس، تقول فيه إنها كانت قد درست الكتاب المقدّس في العقد السابع من القرن الماضي، بشكل مكثّف خلال شبابها، مضيفة "بالنسبة لنا، لم يكن الكتاب المقدّس مجرد نص ديني، بل كان الخطة الإلهية الموضوعة للتاريخ برمته، وعرفنا عبره كيف تصرّف الله في الماضي، وكيف سيتصرف في المستقبل".
وخلصت الكاتبة إلى أن ترامب يريد من خلال الاعتراف بالقدس، كاملة، عاصمًة لإسرائيل تذكير ناخبيه من الإنجيليين بأنه "رجل الله الذي يساهم في دفع التاريخ (كما يراه الكتاب المقدّس) قدما، ويساهم في حلول نهاية التاريخ".
في ذلك الوقت، قلت إنه أمام هذه الوقاحة الاستعمارية المتوّشحة بنصوص الكتاب المقدّس، والتي يخوض معسكر ترامب، الممتد من نيويورك إلى الرياض، المعركة على أساسها، من خلال حملةٍ مكثفة ومضلّلة، تستهدف تلغيم الوعي العام بحزامٍ من العبوات العقائدية الناسفة، فإنه ليس من العدل أن يكون مطلوباً منّا، المسلمين والمسيحيين العرب، وغير العرب، أن نتخلّى عن المدخل الديني في النضال من أجل القدس، والأقصى، وفلسطين كلها، لكن من دون أن نبتعد عن جوهر القضية، بوصفها مقاومة شعبٍ احتلت أراضيه ضد استعمارٍ غاصب، ونكتفي بالجوانب العقدية، الدينية، في التعاطي مع الأمر.
من هنا، يصبح الاستغراق في الكلام عن الأقصى والمقدّسات الإسلامية والمسيحية ابتعادًا عن جوهر الصراع، ذلك أنه، مثلًا، لو قرّرت سلطات الاحتلال منع أيّ محاولات للتعدّي على المسجد الأقصى، والحفاظ على هويته الإسلامية، أو بالحد الأدنى احترام قيمته الدينية لدي المسلمين، وكذا احترام خصوصية بيت لحم بالنسبة للمسيحيين، فهل سيكون ذلك مكسبًا، أو ثمنًا كافيًا للاندفاع في طريق التطبيع؟.
أكرّر هنا إن القدس عنوان ومدخل للقضية الأم، فلسطين المحتلة، والتي هي قضية كلّ عربي، كما أنها قضية الإنسان الباحث عن الحق والعدل في كل مكان وزمان. هي قضية المواطن العربي، المسلم والمسيحي والمتديّن والعلماني، اليميني واليساري والوسطي، القومي والليبرالي، لا يمكن لأي طرفٍ أن يحتكر التحدّث باسمها. وأظن أنّ هذا ما قالته التظاهرات العارمة في المدن التركية بوضوح، بوجه محترفي التبرير الذين يرفعون شعارات البيزنس والمصالح، وينبشون في عمق التاريخ عن مساحيق لتجميل ما هو قبيح.