أسمهان.. حضورٌ لا يتوقف

23 أكتوبر 2015

أسمهان ... صوت ذهبي وحياة قصيرة مثيرة

+ الخط -

لعله إيقاع التناوب بين ماضٍ وديع، الجمال فيه كثير، وراهنٍ مقلق، حطام الأرواح فيه كثير، في فيلم المخرجة الفلسطينية، عزّة الحسن، "حضور أسمهان الذي لا يحتمل"، (2014) هو ما جعله يحرز الجائزة الثانية من فئته في مهرجان بيروت السينمائي الدولي أخيراً. ولكن، ليس هذا الأمر وحده مقصد الفيلم، فالنزوع لدى المغنية الشهيرة إلى التمرد، بالخروج عن مواضعاتٍ عشائرية وعائلية صلبة، في زمنها، مقروناً بموهبتها وصوتها الذهبي، كما وصفه محمد التابعي، هو ما أوحى الفيلم إلى حاجة المرأة العربية له. والمرجح أن عزّة الحسن عندما استهوتها شخصية أسمهان، وجدت نفسها أمام زوبعةٍ من تفاصيل مثيرة، غزيرةٍ بالتناقضات والتوترات، فلم ترغب بالاعتناء بها، بل آثرت الشجى الاستثنائي في صوتٍ أخّاذ، موصولٍ بروحٍ مغامرة، طامحةٍ إلى اطمئنانٍ ما. وقد أجاد الفيلم (70 دقيقة) بالربط بين أنفاس أسمهان تلك، في زمنها (عاشت 32 عاماً)، وأشواق مغنيتين شابتين مصريتين، على كفاءةٍ ملحوظة، شغوفتين بأسمهان، امرأةً وصوتاً وحالةً، نحو اطمئنانٍ ما أيضاً في بلدهما الذي صار يفتقد الدعة التي كان عليها إبّان نجومية أسمهان (ماتت في 1944). وثمّة إيحاءٌ كاشف في جولة الكاميرا في الفيلم الأنيق على رسوم غرافيتي تنطق بالثورة، وتحتفل بها، على جدرانٍ في القاهرة، قد يسوّغ القول إن تطلع أسمهان، النائي في زمن مضى، إلى استقلالٍ شخصي، وتحقيقٍ للذات والروح، متصل بأشواق مجتمعاتنا إلى التحرر من التسلط والاستبداد.

تلك الدرامية الضافية، وربما الفجائعية أيضاً، التي كانت عليها حياة أسمهان القصيرة (لها 33 أغنية فقط)، ما زالت مادةً تُغوي بالانتباه الإبداعي إليها، وبمحاولة جلاء كل الحقائق، الفردية والعامة، المتصلة بها. وكان مسلسل شوقي الماجري عنها (رمضان 2008) قد اجتهد، بكيفيّةٍ شجاعة وفنية، في هذا الخصوص، فأحاطت به المشكلات والدعوات القضائية والثرثرات البائسة من عائلة الأطرش (آمال الأطرش الاسم الحقيقي لأسمهان). وثمّة متعةٌ وفيرةٌ في قراءة كتاب محمد التابعي (1896-1976، أحبته أسمهان، وارتبطا بخطوبةٍ لم تكتمل بزواج) عنها (الشروق، 2008)، كما أن الإفادة كبيرة في كتاب شريفة زهور "أسرار أسمهان" (المدى، 2006)، أما مؤلف سعيد الجزائري "أسمهان والاستخبارات" (رياض الريس، 2009)، فأهل الدراية أعلم بالصحيح وغير الصحيح فيه. ولعل هذه الكتب الأهم بين عدة كتب عن أسمهان، تضمنت خراريف مسلية وغير مدققة عن مغنيةٍ عاشت حياتها، بالطول والعرض، كما قال نبيل المالح، وتزوجت ثلاث مرات، ولم تعرف الحب، كما نقل التابعي عن والدتها، وكاد زوجها المخرج أحمد سالم يقتلها. وإلى إفراطها في شرب الكحول وحبها المال والبذخ وإسرافها ومحاولاتها الانتحار، وكثرة أسفارها بين مصر ولبنان وسورية وفلسطين، تعاونت أسمهان مع المخابرات البريطانية والفرنسية، وتردّد أنها تواصلت مع المخابرات الألمانية، في غضون الحرب العالمية الثانية، ما جعل الإنجليز يدبّرون حادث الغرق الذي قضت فيه، على ما ذاع.

مرّ فيلم عزّة الحسن على أشياء من هذا كله، عرضاً، وكان اعتناؤه الأهم بصوت أسمهان، وبأغنيتها الأشهر "ليالي الأنس في فيينا"، فاحتفى بها في فيينا نفسها، بين عرب مهاجرين محبين الغناء والموسيقى. وجاء مشهد البلاتوه، الذي تم تصوير تلك الأغنية الأوبرالية فيه، مقفلاً ومهملاً وسط حطام بائس في منطقةٍ شبه مهجورة في القاهرة، وحديث سمير فريد في المكان، بأسىً، عن هذا الحال (هل هو حال مصر؟) مركزياً في الفيلم الذي اختير فيلم الافتتاح في مهرجان سينما المرأة في المغرب، قبل أيام. كما أن مشهد القصر في لبنان الذي كانت تستقبل فيه أسمهان ضيوفها وتقيم فيه السهرات والأمسيات، حطاماً في مكان مهجور، جاء مؤسياً أيضاً، (هل هو حال لبنان؟). جارحٌ فيلم عزّة الحسن، إذن، لأنه عن حاضر عربيّ مثقل بالحطام، لا يحتمل حضور أسمهان فيه. 

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.