أسماؤهم فعل سياسي

20 فبراير 2024
+ الخط -

كتب الصحافي الأميركي، توماس فريدمان، أنه يفهم عادة الشرق الأوسط إما عبر شبكة سي أن أن الأميركية أو عبر عالم الحيوان، مشبها شعوب الشرق الأوسط بالحشرات. لم تر صحيفة نيويورك تايمز أي مشكلة في نشر مقالة فريدمان، وعنوانها "فهم الشرق الأوسط عبر مملكة الحيوان". والمقالة ليست سوى حلقة في سرديات نزعت الإنسانية عن الفلسطينيين، كان منها قول وزير الحرب الاسرائيلي، يوآف غالانت، إن جيشه يواجه "حيوانات بشرية"، وحديث رئيس الحكومة، نتنياهو، عن الفرق بين من سماهم "أطفال النور وأطفال الظلام" إلى تصريح الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند أخيرا أنه لا يمكن المساواة بين "ضحايا الحرب وضحايا الإرهاب"، وغيرها من تصريحات مماثلة. في الوقت نفسه، نشرت شبكة الجزيرة أسماء أطفال قتلتهم العمليات العسكرية في غزّة، وانفرد الصحافي الإسرائيلي في صحيفة هآرتس، جدعون ليفي، بالتعليق على شريط "الجزيرة" والمعنى الإنساني والأخلاقي لقتل طفل كل 15 دقيقة في مقالة حملت عنوان "رعب بهذا المستوى ليس له تفسير".
رغم رمزيته، يعتبر شريط "الجزيرة" معدّدا أسماء كثيرين من الأطفال الذين قتلتهم حرب الإبادة الإسرائيلية، وبينهم أطفال بعمر صفر، من أقوى الردود على عملية نزع الإنسانية المتواصلة في معظم الخطاب الإعلامي والسياسي في الغرب. ويعيد نشر الأسماء إطلاق النقاش بشأن من هو مرئي ومن هو مغيب في السياسة، أي بمعنى آخر من تحسب حياته ذات قيمة؟ أعاد شريط "الجزيرة" التي تناقلته آلاف التغريدات والمشاركات عبر وسائط التواصل بعض الاعتبار لمن نزعت إنسانيّتهم بوصفهم أعداداً زائدة أو ضحايا منزوعي الهوية والإرادة لما تسمّى أضراراً جانبية في حرب الإبادة في غزّة (collateral damage).

حتى تاريخ كتابة هذه السطور، قتل ما لا يقل عن 28 ألف مدني في غزّة، بينهم أكثر من 12 ألف طفل وثمانية آلاف امرأة

يعيد الحديث عن أهمية تسمية الضحايا أفراداً باعتباره فعلاً سياسياً إلى أعمال الفيلسوف الفرنسي جاك رانسيير أستاذ الفلسفة الفخري في جامعة باريس الثامنة، والمعروف بأبحاثه عن الطبقة العمّالية، وحجّته أنها لا تحتاج لتوجيه من النخب لفهم القمع الذي تتعرّض له وإيجاد الوسائل لمواجهته. يعتبر رانسيير أن تسمية أولئك الذين يعدّون جزءا من المجموعات غير المرئية التي يتم تعدادها كجماهير فعل أساسي في السياسة، إذ يمنح الذين لا يتمتعون بالأسماء أو بشكل آخر بالقدرة على التعبير أو الظهور أو العلنية أن يمنحوا أنفسهم أسماءً بما يخوّلهم أن يتحدّوا عملية تغييبهم والسياسات العامة التي تمنح فعل العلانية أو تحجبه. ويأخذ رانسيير مثالا أعمال الفنان التصوري التشيلي ألفريدو جار عن الإبادة في رواندا التي راح ضحيتها أكثر من مليون نسمة على يد عصابات الهوتو عام 1994 وسط لامبالاة العالم. عوضا عن تصوير جثث الضحايا كما يفعل مراسلو الحروب، ركّز الفنان على الناجين، وعلى أهمية الأسماء وقوتها المعنوية في تغيير السرديات عن الضحايا. أنتج لوحات إعلانية حملت اسم رواندا بأشكال مختلفة، نشرت في شوارع مالمو في السويد، حيث نظم الفنان معرضا لما سمّاه مشروع رواندا. وبذلك شاهد سكّان المدينة اللوحات، وتـذكّروا أن مجزرة ارتكبت في مكان ما في العالم، في حين يتوجّهون إلى أعمالهم اليومية في حياتهم المستقرّة. 
يطرح رانسيير النقاش في الحقّ بالإنسانية، أي حقّ أفراد هذه المجموعات التي تعدّ مغيّبة أو صامتة، حقهم بالاعتراف بهم كأفراد لحياتهم وموتهم أهمية خاصة. كما يطرح النقاش بشأن الحق بالحزن، أي أن يستحقّ موت هؤلاء الحزن والاعتراف بالخسارة. حتى تاريخ كتابة هذه السطور، قتل ما لا يقل عن 28 ألف مدني في غزّة، بينهم أكثر من 12 ألف طفل وثمانية آلاف امرأة. تخرُج قصص موت هؤلاء إلى العلن، عندما تفوق في قسوتها الخيال، ومنها قصة مقتل الفتاة هند رجب التي وجدت جثتها أخيرا بعد أيام من احتجازها في سيارة وسط جثث عائلتها، في حين حاولت الطواقم الطبية الوصول إليها لإنقاذها، وقتل اثنان منهم، في حين كانا يحاولان انتشالها. نقلت وسائل الإعلام كلماتها الأخيرة إلى المسعفة التي بقيت على تواصل معها إلى حين انقطاع الخط الخليوي: أنا خائفة، لم لا تأتون لإخراجي؟

قد يحلّ التعب يوما ما ويصبح قتل المدنيين في غزّة وجنوب لبنان وأخواتهما أمرا عاديا

تسهم التغطية الإعلامية في تطبيع موت ضحايا النزاعات باعتبارهم مجموعات معدّة للموت، لأن تلك هي النتيجة المنطقية للنزاع. لا تحول تغطية صور الدمار والجثث دون القبول المضمَر بنتيجة الحرب باعتبارها أمرا لا مفر منه. بذلك، لا يثير موت هؤلاء أي ثورة غضب أكثر من التعبير الرمزي للمسيرات الشعبية أو العروض الفنية. شهد النزاع في سورية حلقات عنف غير مسبوقة، مرفوقة بمشاهد وصور مرعبة. على سبيل المثال، أثارت صورة الطفل السوري الذي عثر على جثته في شاطئ في تركيا بعدما غرق القارب الذي أقلّ عائلته، هربا من ويلات الحرب في بلده عام 2015، أثارت الصورة التي تصدّرت الصفحات الأولى للصحف في بريطانيا موجة غضبٍ رافقها ضغطٌ على الحكومة لتغيير سياساتها، إلا أن الحملة لم تؤت أي نتائج، وباتت الصورة، كما العشرات مثلها، طي النسيان. 
لم تسهم صور الرعب اليومي في غزّة ولا مشاهد القتل السادي التي وثقها الجنود الإسرائيليون أنفسهم في الضغط لوقف إطلاق النار، في حين تراجعت مساحة التغطية اليومية لفظاعات حرب الإبادة الإسرائيلية. قد يحل التعب يوما ما ويصبح قتل المدنيين في غزّة وجنوب لبنان وأخواتهما أمرا عاديا. حسنا فعلت "الجزيرة" بتسجيل أسماء القتلى الأطفال أفراداً يستحقّون الإنسانية والحزن.

A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.