أزمة الغذاء العالمي بوابة روسيا إلى نجاحات إضافية

11 يونيو 2022
+ الخط -

في الوقت الذي تحذّر فيه الأمم المتحدة من أزمة جوع وشيكة قد تهدّد مناطق واسعة في العالم، نتيجة الحرب على أوكرانيا وحصار قوات روسية موانئ أوكرانية تُستخدم لتصدير مواد غذائية، وبالذات القمح، وبينما يحذّر وزير أوروبي، هو وزير خارجية إيطاليا، لويجي دي مايو، من أن ملايين البشر مهدّدون بالموت نتيجة هذا الحصار، في هذا الوقت، يصرّح وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في أثناء زيارة إلى أنقرة الأربعاء الماضي، أن حكومة بلاده مستعدّة لحل هذه الأزمة، ولضمان إمدادات الحبوب، إذا ما أزالت كييف الألغام من مياه البحر الأسود. ما لم يقله لافروف أن تلغيم المياه هو أحد تداعيات الحرب التي تتعرّض لها أوكرانيا منذ 24 فبراير/ شباط الماضي، وأن وقف الحرب ورفع الحصار الروسي عن الموانئ سيمهد لعودة الحركة الطبيعية لهذه المنافذ البحرية. على هذا النحو، تسعى موسكو، في هذه المرحلة، إلى استغلال أزمة الغذاء الوشيكة، من أجل تحقيق غايات سياسية وعسكرية، من أهمها دفع العالم، والغرب بالذات، إلى التعامل مع ذيول الحرب، لا مع الحرب ذاتها، باعتبارها عدواناً على بلد مستقل ذي سيادة، والدفع نحو حوارٍ تُجريه أطراف دولية مع موسكو لمعالجة هذه الأزمة الفرعية، مع ما يتضمنه ذلك من اعتراف ضمني بالأمر الواقع، وبأن روسيا "مسؤولة "عن الموانئ الأوكرانية وعن الملاحة في المياه الإقليمية الخاصة بأوكرانيا في البحر الأسود وبحر آزوف، مع محاولة استدراج تركيا إلى التعاون مع موسكو في هذا الصدد (وربما مقابل تفاهمات بخصوص الوضع في شمال سورية)، وصولاً إلى الظهور بمظهر إنساني، وذلك بمنع وقوع أزمة غذائية خطيرة، مع ما يتبع ذلك من مكافآت معنوية، وربما مادّية، من الواجب الوفاء بها للطرف الروسي المحتل. لهذا، وكما هو منتظر، اعترضت كييف على العرض الروسي، مطالبة برفع الحصار الروسي عن الموانئ، وإحلال وجود دولي ممثل بقوات للأمم المتحدة في الموانئ، مع ضمانات من أطراف ثالثة بسلامة السفن التجارية، ذهابا ًوإياباً، (تتحدّث كييف عن 25 مليون طن من الحبوب تنتظر التصدير).

إن إرادة التدخل لوقف اجتياح بلد ما غير قائمة، وثمة تقييد ذاتي لهذا الخيار، وهو ما تفطنت له موسكو مسبقاً

وإذ تعمد موسكو إلى حرب استنزاف طويلة للجانب الأوكراني، فقد نجحت، كما يبدو، في دفع الأطراف الدولية إلى الامتثال إلى نطاق الحرب الذي تحدّده هي، والقاضي بأن تكون جميع الأراضي الأوكرانية، وكذلك المياه والأجواء، مسرحاً للحرب، على أن لا تمتدّ العمليات العسكرية إلى مدن أو مواقع داخل الأراضي الروسية، وهو ما عبّر عنه الرئيس الأميركي، جو بايدن، لدى تزويد أوكرانيا بدفعة جديدة من الصواريخ المتطوّرة (منظومة هيمارس)، ومسؤولون أميركيون آخرون، من اشتراط ألا تُستخدم هذه الأسلحة ضد أهدافٍ في الأراضي الروسية، وذلك تكريساً لمبدأ تفادي الانسياق إلى مواجهة أميركية روسية، وخشية الاقتراب من تصعيد نووي من طرف روسيا. والابتزاز النووي نجاح آخر لموسكو، إذ له تداعياته السياسية والعسكرية، وفحواها: اتركونا نفعل ما نشاء، واكتفوا بالإدانة والعقوبات، والتسليح المحدود الذي يطيل أمد الحرب، وسوى ذلك، فإن الانتقال إلى الخيار النووي يصبح وارداً. وليس مطلوباً، بطبيعة الحال، تبادل التهديدات النووية، ولا الانجرار إلى التحدّي الذي تشهره موسكو، غير أن الابتزاز بسلاح الدمار الشامل يبرهن أن الخطر النووي لا يتمثل فقط في تسرّب هذا السلاح الى دول صغيرة أو جماعات متطرّفة، إذ ها هي دولة كبيرة عضو في النادي النووي وفي مجلس الأمن لا تتردد في إطلاق هذه التهديدات، ما يملي إعادة النظر في التفاهمات النووية، ووضع قيود وتبعات ملزمة على هذه التهديدات.

الصمود الأوكراني، إذ يحقق هدفاً سياسياً ومغزى عسكرياً، فذلك لا يثني الجانب الروسي عن تقويض مظاهر الحياة ومصادرها

غير أنه بعيداً عن الخيارات الصفرية، نجحت موسكو في رهانها على النيات الغربية بالاستنكاف عن التدخل في حالة اجتياح دولة أوروبية مستقلة. والحجة الغربية، والأميركية بالذات، أن أوكرانيا ليست عضواً في حلف الناتو، ومغزى ذلك أنه عدا دول هذا الحلف، فإن إرادة التدخل لوقف اجتياح بلد ما غير قائمة، وأن ثمة تقييداً ذاتياً لهذا الخيار، وهو ما تفطنت له موسكو مسبقاً. فيما أضفت تدخلات موسكو في شرق أوكرانيا، وفي السيطرة على شبه جزيرة القرم، وما نجم عنها من ردود فعل ساكنة، مزيداً من البراهين. لقد سبق أن تدخلت واشنطن في العراق وأفغانستان، غير أنها كفّت، كما يقول زعيماها، الديمقراطي باراك أوباما والجمهوري دونالد ترامب، عن لعب دور شرطي العالم... لتكن موسكو، إذن، شرطي العالم! هكذا يبدو تفكير الكرملين، فالتدخلات الشرسة في غروزني وجورجيا وروسيا وليبيا ومالي جرت تحت الأنظار الغربية، وأنظار بقية العالم. وإذا ما صدحت وسائل إعلام غربية بإدانة موسكو، فإن الأخيرة تجيب، وماذا فعل الأميركيون في العراق، وفي دعمهم الاحتلال الإسرائيلي. أنتم إمبرياليون، ولديكم ازدواجية معايير، ونحن لدينا مطامح ببعث الإمبراطورية الروسية واستعادة الأمجاد القومية، وتدارك الخسائر التي منينا بها بانهيار الاتحاد السوفييتي، ولن نظلّ محتجزين وراء حدود بلادنا.

وفي هذه الأثناء، يواصل مسؤولون غربيون الثناء على الصمود الأوكراني، وهو صمود يستحق الثناء حقاً، غير أن خبرة الأداء الروسي في الحروب، وبالذات في نموذجي غروزني وسورية، تفيد بأن تقويض البنى التحتية والمرافق الحيوية، والإثخان في المدنيين، وفي مصادر الحياة، هو جزء من العقيدة العسكرية. وأن موسكو قد تتنازل في هذا الموضع أو ذاك، لكنها لن تتنازل عن ربط شرق أوكرانيا بالقرم والقرم بالأراضي الروسية، فيما يبقى الهدف الأساس إلحاق أكبر قدر من الدمار بالمدن والمنشآت الحيوية، بما في ذلك المدارس والمستشفيات ومولدات الكهرباء والطرق والجسور وخزّانات المياه، مع تمزيق النسيج الاجتماعي بعزل التجمعات البشرية بعضها عن بعض، ودفع الجميع إلى التماس النجاة لا غير، وذلك في استعادة أسوأ فصول الحرب العالمية الثانية، فالحرب تستهدف وجود أوكرانيا بمختلف جوانبه، والجيش الأوكراني هو أحد مظاهر وجود هذا البلد ليس إلا، وأنه يكفي تحقيق هذه الأهداف بتحويل البلد إلى أنقاض تصدح بالخراب، كي تضمن روسيا النصر. ومؤدّى ذلك أن الصمود الأوكراني، إذ يحقق هدفاً سياسياً ومغزى عسكرياً، فذلك لا يثني الجانب الروسي عن خوض الحرب على طريقته، بتقويض مظاهر الحياة ومصادرها، وعلى أوسع نطاق ممكن، بما يعنيه هذا من حرمان واقعي لملايين الأوكرانيين من العودة إلى بلدهم المهدّم. ولن يكون الطرف الروسي في مرآة نفسه الوحيد الذي يندفع في هذا الاتجاه، فالاستعمار الغربي فعل شيئاً من هذا في آسيا وأفريقيا، والحركة الصهيونية استهدفت إنهاء وجود بلد اسمه فلسطين، والروس الآن، كإمبريالية شابة وصاعدة، يثابرون على انتزاع نصيبهم في التوسع الإمبراطوري.

محمود الريماوي
محمود الريماوي
قاص وروائي وكاتب سياسي من الأردن.