أزمة التعليم في المغرب سياسية
لو أن في المغرب حكومة تأتي بطريقة ديمقراطية، تمثل أغلبية الناخبين الذين ما زالوا يثقون في صناديق الاقتراع، لأوقفت جميع أنشطتها واجتماعاتها، وكرّست كل جهدها لإيجاد حلّ لإضرابات هيئة التعليم، وأوقفت هذا النزيف المستمرّ في هدر الزمن المدرسي، فمنذ شهرين تقريبا تخوض هيئة التعليم إضرابات متواصلة أدّت إلى تعطيل الدراسة في جميع مدارس المغرب العمومية خلال الموسم الأول من السنة الدراسية الحالية، ما حرم أكثر من سبعة ملايين تلميذة وتلميذ من الذهاب إلى فصولهم الدراسية، وأغلب هؤلاء، إن لم يكن جلّهم، من أبناء شرائح المجتمع المتوسّطة والفقيرة، ومن أبناء البوادي.
يعود المشكل الذي أدّى إلى دخول هيئة التعليم التي يقدر تعداد منتسبيها في المغرب بأكثر من 280 ألف شخص، في الإضرابات، إلى قانون تنظيمي جديد خاص بهيئة التدريس، جاء به الوزير الحالي للتعليم شكيب بنموسى، وهو شخصية ذات خلفية تكنوقراطية، ينتسب إلى أحد الأحزاب المسمّاة "إدارية" في المغرب، نسبة إلى دور الإدارة في إيجادها، وأقرّته الحكومة الحالية، برئاسة رجل الأعمال عزيز أخنوش، وهو أيضا شخصٌ جيء به من عالم المال والأعمال، وجرى تنصيبه على حزب من الفصيلة نفسها، من الأحزاب ذاتها التي تولد وتترعرع في كنف الإدارة، وبتعبير آخر "الدولة العميقة" في المغرب التي تُهندس خريطة الأحزاب والانتخابات، وما يتمخض عنها من برلمان وحكومة وهلم جرا من مؤسّسات بهياكل ومقرّات ضخمة وجيش من الموظفين، لكنها تفتقد إلى الروح السياسية التي تميّز المؤسّسات الديمقراطية عن غيرها من الكائنات البيروقراطية التي تصلُح واجهة لتزيين صورة دولها في الخارج. وبالنسبة لهيئة التعليم، فإن القانون التنظيمي الجديد الذي أثار المشكل، وأدّى إلى أكبر احتقان في قطاع التعليم لم يشهده المغرب مثيلا له منذ استقلاله، ليس مُجحفا فقط في حقهم كونه أثقل كاهلهم بالواجبات، وربط أداءهم بالعقوبات، بدلا من الحوافز التي يتطلبها مجال العمل فيه يقوم على التضحية والعطاء، وإنما حمل بين طياته ما اعتبره منتسبو هيئة التعليم احتقارا لمهنتهم ومسّا بكرامتهم، بما أنه احتفظ للمدرّس براتب هزيل، يضعه في أدنى سلم الفئات المهنية في المغرب، قاب قوسين أو أدنى من درجة الفقر!
ليس التعليم فقط سلّماً للرقيّ الاجتماعي وإنما هو أقوى أداة لصنع التغيير داخل المجتمعات
وبدلا من فتح حوار مباشر مع هيئات التعليم التي التأمت في تنسيقياتٍ تمثل جميع فئات موظفي التعليم من مدرّسين وكوادر إدارية وفنية وتربوية، هي التي تقود اليوم الاحتجاجات في المغرب، اقتطعت الوزارة، أولا، أيام الإضراب من رواتب المضربين، وبلغت نسبة الاقتطاع في حالات إلى نحو 70% من الأجر الشهري للموظف المُضرب. وثانيا، اختارت الوزارة، ومعها الحكومة، الجلوس إلى نقابات حزبية لم تعد تمثّل سوى الأشخاص الذين يمثلونها، وقد تحوّل أغلبهم إلى "موظفين" نقابيين، أقصى ما يطمحون إليه الحفاظ على مصالحهم النقابية التي تحولت إلى نوع من "الريع النقابي"، الأمر الذي أفقد العمل النقابي في المغرب كل مصداقية، وأفرغ النقابات من مناضليها القاعديين. والنتيجة أن التنسيقيات رفضت كل ما اقترحته الحكومة، لأنها لم تُشركها في الحوار، ولكن أيضا لأنه لم يحمل أي جديد ينهي الأزمة القائمة، الأمر الذي أدّى إلى حالة من الانسداد التام، وعدم وجود أفق لحل الأزمة قريبا، ما بات يهدّد بسنة تعليمية بيضاء، ضحاياها ملايين التلميذات والتلاميذ من أبناء الشعب المغربي، والضحية الثانية هو البلد برمّته، لأن التعليم في كل بلد هو عصب تنميته وتطوّره وتقدّمه.
وبالرغم من حجم الأزمة العميقة التي مسّت أحد أهم أركان بناء الشعوب والأمم، ما زالت الحكومة تتعامل معها بمقارباتٍ تكنوقراطية وبيروقراطية وأمنية من خلال عقد اجتماعات تُفضي إلى الدعوة إلى اجتماعات، ومنع الاحتجاجات، وإشهار العقوبات. وفي المقابل، يصر المضربون من أفرد هيئة التعليم على الاستمرار في مواصلة إضرابهم، مهما كلفهم الأمر، حتى تحقيق مطالبهم المتمثلة في تحسين ظروفهم الاجتماعية بما يليق بمكانة المعلم والمدرّس داخل كل دولة تحترم شعبها ومجتمع يقدّر كفاءاته. وإلى ذلك الحين، ستظلّ الأزمة تراوح مكانها ما بين شدّ وجذب بين الوزارة والحكومة من جهة وهيئة التعليم من جهة أخرى.
يحتاج التعليم في المغرب إلى إصلاح حقيقي، يبدأ من إعادة الاعتبار لهيئة التدريس، وللمدرسة العمومية التي يبدو الهدف من إهانة كوادرها وتحقيرهم القضاء عليها لصالح التعليم الخاص
ليست أزمة التعليم في المغرب جديدة، وليست ذات طابع اجتماعي فقط يرتبط بمطالب المدرسين، حتى وإن كانت مشروعة، وإنما هي أزمة بنيوية، وهي في عمقها سياسية مرتبطة باختيارات الدولة وهواجسها الأمنية، فعندما استقلّ المغرب في منتصف خمسينيات القرن الماضي، ترك الاستعمار الفرنسي في المغرب مدرسة عمومية متقدّمة. وبالرغم من تلقينها باللغة الفرنسية، إلا أن مناهج تدريسها كانت قادرة على إنتاج نخب متعلّمة في جميع مجالات الحياة، حاملة فكرا نقديا يرفض ثقافة الخنوع والطاعة العمياء. وكانت هيئة التعليم في المغرب في ستينيات القرن الماضي وحتى تسعينياته تشكل القاعدة العريضة للأحزاب المعارضة والنقابات القوية، الأمر الذي دفع الملك الراحل الحسن الثاني إلى كسر شوكة معارضيه، إلى ضرب أسس التعليم الذي لم يكن يرى فيه سوى مشتلا لقواعد الأحزاب والنقابات المعارضة لطريقة حكمه. ومع تعاقب السنوات والعقود، وصل الأمر إلى ما هو عليه اليوم، فالتعليم الذي يستنفد أكثر من 10% من الميزانية العامة للمغرب، أي 74 مليار درهم في موازنة 2024 (أكثر من سبعة مليارات دولار)، وتصرف عليه سنويا مليارات الدراهم من أموال دافعي الضرائب على برامج إصلاح أثبتت فشلها، وعلى مؤسّسات ومجالس معينة تنتج تقارير لا يقرأها حتى أعضاؤها! والنتيجة أن التعليم تحوّل إلى ماكينة لإنتاج أشباه المتعلمين، وسنويا يغادره أكثر من 300 ألف تلميذة وتلميذ من دون أن ينهوا تعليمهم الثانوي، وأكثر من ذلك أصبح يُنتج ثقافة تقوم على الخنوع والطاعة للسلطة.
يحتاج التعليم في المغرب إلى إصلاح حقيقي، يبدأ من إعادة الاعتبار لهيئة التدريس، وللمدرسة العمومية التي يبدو أن الهدف من إهانة كوادرها وتحقيرهم داخل المجتمع هو القضاء عليها لصالح قطاع التعليم الخاص الموجّه إلى أبناء الميسورين أو الأسر التي تضحّي بكل ما لديها من أجل تعليم أبنائها. ويحتاج الإصلاح إرادة سياسية حقيقية تعلن عن نفسها، وتتبنّى اختياراتها وتدافع عنها. ويبدو أن هذه هي الحلقة المفقودة في دوّامة أزمة التعليم التي لا تنتهي. ليس التعليم فقط سلما للرقي الاجتماعي، وإنما هو أقوى أداة لصنع التغيير داخل المجتمعات، بما أنه ينتج طبقة متعلّمة تعي حقوقها السياسية، وترفض كل أشكال الطاعة العمياء للسلطة. ولهذا لا يجب أن ننتظر من السلطة التي تخاف من تعليم بهذه المواصفات أن تُصلحه.