"أربعون حرامي يعانون من نقصٍ عاطفي"

12 سبتمبر 2023
+ الخط -

"أربعون حرامي يعانون من نقص عاطفي، شجارات حيوانية وحروب بشرية" (أوديل جاكوب)، ذلك هو عنوان الكتاب الأخير للأخصائي في طبّ النفس العصبي، ومروّج مفهوم "المرونة النفسية" résilience ، بوريس سيرولنيك، حيث يستخدم الكاتب معرفته الموسوعية وكذلك تجربته الذاتية في محاولته تفسير الأسباب وراء انتشار العنف في مختلف الحقب والمجتمعات. هذا ويركّز المؤلّف على الطابع النفسي - العصبي للعنف البشري، بالاستناد إلى ملاحظاته واستنتاجاته المستخلصة من مراقبة عالم الحيوان. كيف؟ يكفي أن نراقب حيوانا سليما، يعيش معزولا بمفرده، حتى ندرك فورا أنه غير قادر على البقاء على قيد الحياة. بالتوازي، لا يمكن للدماغ البشري الصحيح الذي يحيا معزولا عن الآخرين، أن يبقى سليما، لأنه سيتعرّض للضمور بشكل حتمي. ولسوق هذه الحقيقة، لا يتوانى سيرولنيك عن الاستناد إلى تجربته الذاتية وسيرته ناجيا من الحرب. يقول: "خلال سنوات الحرب، وبعد أن سيق والداي إلى معسكرات الاعتقال النازية حيث لاقيا حتفهما، حرمت من كل علاقة إنسانية وعاطفية. كنت أعيش في كنف عائلة حمتني، لكن كل محادثةٍ مع الآخرين كانت ممنوعة عليّ. بعد انتهاء الحرب، تم وضعي في مؤسّسة للأيتام وكانت بمثابة صحراء عاطفية حيث يموت معظم الأطفال، ولقد تمكّنت من النجاة من هذا المصير المخيف من خلال اكتشاف عوالم الحيوانات. كنت أهرب من حفرة في سياج الحديقة، لملاقاة كلب الجيران الذي استقبلني بفرح عندما كنت أخبره عن مصائبي. لقد ساعدني هذا الكلب كثيرا. وعلاقاتي الإنسانية الوحيدة كانت مع الحيوانات.
هل هذا هو السبب في أنني اعتقدت دائما أنه، من خلال دراسة الحيوانات، يمكن للمرء أن يفهم بشكل أفضل حالة الإنسان؟".
يجيب سيرولنيك عن هذا السؤال بالإيجاب، وهو من خلال بناء مقارنة علمية ومعمّقة بين العالمين، يرى "أن عالم الحيوان ساعدني على فهم الشرط الإنساني". فالبشر، في عالم مبني على الفكر المجرّد، يصبحون قادرين على أمريْن: الإبداع والهذيان! الإبداع أن تبتكر أشياء لم تكن موجودة من قبل، وهو ما يتيح تقدّم الفكر وتطوّره، في حين أن الهذيان يبتدع هو أيضا ما لم يكن موجودا، إنما ما هو منفصل كلية عن الواقع، وما سيؤدّي تاليا إلى الحروب والنزاعات على أنواعها. على عكس الإنسان، الحيوان لا يخضع لهذا الهذيان وهو يجهله تماما، فالحيوانات تتشاجر وتتقاتل في ما بينها، لكنها غير قادرة على تنظيم جيوش من القتلة أو من المجرمين الذين لا يتردّدون في إبادة أعداد هائلة من بني جلدتهم لأسباب واهية أو مختلقة لا تستند إلى أية حقائق.  وهنا يشير سيرولنيك إلى فكرة مهمة تقوم على تحميل اللغة مسؤولية العنف، حيث يقول "باستطاعة معجزة اللغة أو ملكة الكلام أن تقودا إلى فظاعات الحروب الدينية والإبادات المختلفة". 
ففي السنّ التي يبدأ فيها الأطفال يفبركون القصص ويتعلّقون بها، أي حين يبلغون الستّ سنوات، يصار إلى تعليمهم وتلقينهم الأسباب والمبرّرات التي أدّت إلى نشوب حروبٍ ووقوع مجازر، "بحقّ الأعداء الذين جاؤوا لقتلنا أو سلب ثروتنا... فاضطررنا لمحاربتهم وقتلهم وممارسة أبشع أنواع العنف بحقهم". أجل، هكذا يمكننا أن نجعل الفوضى تبدو منظمة ومنطقية، والرعب والفظاعات فعلا عاديا، لا بل أخلاقيا، ما دامت الأسباب واضحة وملموسة وقد افتعلها الغزاة، أو الغضب الإلهي، أو حتى حركة الكواكب والأفلاك. هذا كله، برأي سيرولنيك، يؤدّي إلى ضياع الملموس والحقيقي، مشيرا إلى أن التطوّر التقني السريع والمذهل يقوّي لدينا هذا الإحساس السحري أو غير الواقعي بالأمور، كما أنه يبدّل معاييرنا الأخلاقية، فالعمل، على سبيل المثال، فقد قيمته المقدّسة وأهميته بالنسبة للإنسان، بعد تقدّم الآلة واضطلاعها بتنفيذ الجزء الأكبر من المجهود، ليتحوّل من ثم إلى شيءٍ سلبي وعائق في وجه المتعة والرغبة. 
الحيوانات إذ تتقاتل، تفعل لسبب واضح، فيما يفعل الإنسان بناء على قصة لا علاقة لها بالواقع، أو على قناعة يشرعنها لكي يبرّر، باسمها، القتل. وبهذا، اللغة هي ربما أفضل وأسوأ شيء على الإطلاق!

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"