أحزان جمهور السيسي: متلازمة الشهيد دونالد ترامب
لم تكن مصر ضئيلة الحجم في عيون البيت الأميركي، في أي وقت من الأوقات، كما كانت في فترة دونالد ترامب. ولم يكن منصب رئيس مصر مهانًا ومحتقرًا في نظر من يحكم الولايات المتحدة، في أي عصر من العصور، كما هو في مرحلة "ترامب – السيسي".
من هنا، لا أتفهم سر سرادقات العزاء المنصوبة داخل معسكر عبد الفتاح السيسي، حزنًا على سقوط أكثر رؤساء أميركا استخفافًا، حد الازدراء، للنظام المصري الذي لم يترك مناسبة إلا وسخر منه فيها، منذ سكن البيت الأبيض، بداية من مسخرة "I like your shoes"، ذلك التعبير الغربي المحمل بدلالات سيئة كثيرة في الثقافة الاجتماعية الغربية، مرورًا بمشهد وقوف عبد الفتاح السيسي، مع صغار العاملين والموظفين وسكرتارية البيت الأبيض، خلف الرئيس دونالد ترامب، وهو يجلس على مكتبه في غرور، وليس انتهاء بالوصف المخجل المسيء الذي أطلقه ترامب على السيسي "القاتل اللعين".
ربما سيذكر التاريخ أن دونالد ترامب هو الرئيس الأميركي الوحيد الذي لم يهتم بزيارة القاهرة، طوال فترة حكمه، على غير عادة رؤساء الولايات المتحدة السابقين، الذين كانوا يدخلون إلى الشرق الأوسط من البوابة المصرية، مكتفيًا بإرساله زوجته ميلانيا للسياحة والاستعراض.
قبل ثورة يوليو/ تموز 1952 بعشر سنوات تقريبًا، وفي ذروة اشتعال الحرب العالمية الثانية، زار الرئيس الأميركي روزفلت القاهرة مرتين في أسبوع واحد، حيث عقد مؤتمرين، للتنسيق بشأن سير العمليات الحربية، مع رئيس وزراء بريطانيا والرئيس الصيني، ثم مع رئيس تركيا، وبعد عامين عاد إلى زيارة مصر.
وفي زمن أنور السادات، كانت زيارة ريتشارد نيكسون القاهرة أول زيارة رسمية لرئيس أميركي إلى مصر، وسط متابعة واهتمام إعلاميين على المستوى الدولي، ثم جاء جيمي كارتر وزار مصر عدة مرات، في زمن السادات أيضًا. وفي مرحلة حسني مبارك الطويلة، زار مصر كل رؤساء الولايات المتحدة، باستثناء رونالد ريغان، حيث جاء جورج بوش الأب، ثم بيل كلينتون (أربع مرات) وجورج بوش الابن (ثلاث زيارات) وأخيرًا باراك أوباما.
ارتبطت زيارات بوش الأب وكلينتون وبوش الابن إلى مصر بأحداث سياسية كبرى، تخص منطقة الشرق الأوسط، سواء ما تعلق منها بالقضية الفلسطينية، أو بترتيبات إقليمية، أعقب الاحتلال الأميركي للعراق بعد إطاحة رئيسه صدام حسين. فيما اختار أوباما جامعة القاهرة ليخاطب من خلالها العالم الإسلامي، عارضًا رؤية أميركية جديدة لحوار الحضارات والثقافات. وأتذكر في ذلك الوقت أن أبواقا عديدة لنظام حسني مبارك كانت تبالغ في الثرثرة أن اختيار الرئيس الأميركي الجديد القاهرة يعد بمثابة التفات أميركي إلى أهمية الدور المصري، في ظل إحساس عام بالتقزّم والتضاؤل كان يعتري الدوائر الرسمية المصرية التي وجدت في الزيارة شهادة جودة واعتبار لها. وكتبتُ، في ذلك الوقت من العام 2009، تعليقًا على هيستيريا الفرح الطفولي بزيارة أوباما أن أن بعض الصِبية، وبتسرّع ساذج، اعتبروا أن الترجمة الحرفية لاختيار القاهرة أن الآخرين أصغر وأقل منها، بل إن أحدهم لم يخجل وهو يقول إن عواصم أخرى أصيبت بالخضّة بعد الإعلان عن زيارة أوباما. وتساءلت: هل كانت مصر صغيرة وضئيلة وهزيلة قبل أن يقرّر أوباما زيارتها.. ثم تعملقت وتضخمت فجأة مع قرار الزيارة؟ وهل تليق مهرجانات الرقص والهتاف التى اندلعت على صفحات جرائد الحكومة مع إعلان زيارة أوباما بحجم مصر وثقلها التاريخي، بصرف النظر عمن يجلس على سدّة الحكم فيها؟.
الشاهد، وبصرف النظر عن التفسيرات المتباينة لحرص زعماء البيت الأبيض على زيارة القاهرة، أن مصر مع عبد الفتاح السيسي تضاءلت وتصاغر حجمها ودورها، إلى الحد الذي الذي لم تعد معه تستحق زيارة واحدة من تاجرٍ صفيق، بدرجة رئيس أميركي، يعربد في الشرق الأوسط، يبيع خرائط جديدة، ويطرح صفقاتٍ للقرن، وللقرون المقبلة. وحين يتذكّر أن ثمة دورًا صغيرًا يمكن إسناده لمن يحكم مصر، يستدعيه إلى الرياض، أو إلى واشنطن، فيهرول الأخير وهو يصيح: لبيك سيدي، ستجدني معك فيما تقرّر، وخلفك أينما اتجهت.
شخص على هذا القدر من الوقاحة والصفاقة، والجرأة في توجيه الإهانات، كان من المتصوّر أن يكون رحيله مناسبة سعيدة لجمهور عبد الفتاح السيسي، صاحب النصيب الأكبر من سخرية ترامب المهينة، غير أن الواقع غير ذلك تمامًا، مع هذه البكائيات المازوخية الصاخبة التي اندلعت فور الإعلان عن تفوّق منافسه جو بايدن، الأمر الذي لا يمكن تفسيره إلا أنه تعبير عن متلازمة جديدة على غرار"متلازمة ستوكهلم" هي متلازمة" الشهيد دونالد ترامب".
هل يعني ما سبق أن البديل الذي انتصر على ترامب سيفتح صندوق العيد، ويوزع الهدايا والحرية والديمقراطية على الصغار والكبار؟
هذا موضوع آخر نناقشه لاحقًا