أجنحة نور الدين حجّاج
أسىً مالحٌ يستبدّ بك، وأنت تنظرُ في عيني نور الدين عدنان حجّاج. أقصدُ في عينيْه الساكتتيْن في صورةٍ له، مرفقةٍ مع نبأ استشهادِه، في عامه السابع والعشرين، بينما كان في منزلِه في حي الشّجاعيّة في شرقي مدينة غزّة. لا تنطقُ صورتُه يحمل عودا، وهو واقفٌ في حقلٍ أو حديقةٍ، بإقبالٍ على الحياة وحسب، وإنما أيضا تشفّ عن مزاجٍ رهيفٍ، ممتلئٍ بتفاؤلٍ كثير. ولكنّ قدر الشابّ أنه فلسطينيٌّ هناك، وأن العدوّ القاتل على مقربةٍ منه، والقذائف والصواريخ لا تحفلان بأديبٍ، فنّانٍ، روائيٍّ، عازفٍ، تعلّم الحاسوب في الجامعة، قبل أن يعلّم التلاميذ في مدرسة.
كان نور الدين قد نشر روايتيْن، في القاهرة وعمّان. إذن، ربما صادَفَنا اسمُه من قبلُ منشورا، ... ربّما. من هناك، حيث الجحيم الحادثُ في غزّة، كتبَ إلى صديقٍ له "أنا لستُ رقمًا، وأرفضُ أن يكون خبر موتي عابرًا، دون أن تقولوا إني أحبّ الحياة، السعادة، الحرية، ضحكات الأطفال، البحر، القهوة، الكتابة، فيروز، وكل ما هو مُبهج... قبل أن يختفي كل هذا بلحظة واحدة". أقرأ الرسالة القصيرة، والكثيرَ الذي فيها، ثم أتطلّع عشرين مرّة أو أكثر في الصورة، فيتجدّد في روحي ذلك الأسى المالِح، ثم أقرأ الرواية الثانية لهذا الكاتب الذي أخمّن أنه موهوبٌ وعلى جدارة، "أجنحة لا تطير" (دار فضاءات للنشر والتوزيع، عمّان، 2021)، فأغتبط باللعبة السردية التي اختارها، وبدا فيها على ذكاءٍ ظاهر، وهو يعطي كل شخصيةٍ في الرواية أن تتحدّث بضمير أناها المتكلّم، لتنبني الوقائع المتتالية من سرودٍ تتقاطع فيها الحكاياتُ والمروّياتُ والعلاقات.
كتب نور الدين، في حيّ الشجاعيّة، روايته هذه. لكنّ لا شيء فيها عن غزّة أو ناسِها، ولا عن عموم فلسطين. على قِصرها (188 صفحة)، فيها الحبُّ والعنفُ والقسوة، الرحيلُ والقمعُ والاضطهادُ والتوقُ إلى الحرية، القوّةُ والضعف. ولكن أين؟ لا تُخبرك الرواية عن أمكنة وقائعها، ثمّة جامعةٌ وطلابٌ، وشوارعُ وأحياءُ في المدينة، ثمّة مطارٌ أيضا، وسجونٌ، ومتظاهرون، ومستشفى. ... ثمّة حياةٌ بكل تفاصيلها. ولكن أين؟ لا يريد نور الدين أن يُخبرك. على الأصحّ، لا يريد أحدٌ من الساردين أن يُخبرَك. ستعرف أن شابّا طبيبا عاطلا، يبحث عن العمل في عيادةِ، ولا يجد، ثم يعثر على عملٍ في جامعة، يستلطف شابّةً، ويبدأ في حبّها، ثم تحبّه، ثم يُجبرها أخوها على الزواج من شخصٍ على جلافةٍ، فيما الحبيب يُعتقل. يحكي كلّ منهما عن هذا كلّه وغيره. بالتوازي، ثمّة ابنا خالتيْن كما أخويْن، أحدُهما محام، يسردان ويقصّان، ولأحدهما قصة موجعة بشأن والديْه المنفصليْن اللذيْن تركاه عند خالته. وثمّة شخصياتٌ أخرى تَروي. أما الزوجة المغصوبة المغتَصبة فتُحاول الانتحار، وتضجّ البلاد بمظاهراتٍ تطالب بالعدالة والخلاص من الاستبداد. يهاجر العاشق المعتقل السابق، وكذلك يفعل المحامي الناشط، وآخرون أيضا. ... وفي بلد المهجر، يتبيّن لنا، نحن القرّاء، أن فيه عراقيين وسوريين ومصريين وفلسطينيين، يحاول كثيرون منهم الهجرة إلى أوروبا عبر اليونان، تهريبا.
تبدو الرواية أقوى في حيّز وقائعها الأولى، عند بداية ذلك الحبّ، ومع انكشاف سرّ قديم يخصّ أحد ابني الخالتين. كان إيقاعُها المتمهّل أقدَرَ على شدّ القارئ إليها، قبل أن تتسارع الوقائع وتتالى، ليذهب القصّ إلى الرحيل والهجرة والعنف السياسي. وفي هذا كله، أراد نور الدين عدنان حجّاج أن يقول عن القهر الاجتماعي في شعوب عربية، وعن اضطهاد سياسي في غير بلد عربي، وعن ربيع عربي مُجهض. أراد الإيحاء بأن التحرّر السياسي يلزم أن يقترن بالتخلّص من العنف الأسري، وبإشاعة قيمة الحبّ. وذلك في رواية واعدة، طموحة، موفّقة في كثيرٍ من مواضعها، بالنباهة في قفلتها عندما توحي بنهوض "أمل" في المستشفى، الشابّة التي زوّجها أخوها غصبا عنها، وكأنه يؤشّر إلى أن العتماتِ الكثيرةَ لا تُخفي أن ثمّة أملا باقيا.
كتب نور الدين في رسالته إلى صديقه "أحد أحلامي أن تجوبَ كتبي وكتاباتي العالم، أن يصير لقلمي أجنحة لا توقفها جوازاتُ سفر غير مختومة ولا فِيَز مرفوضة". وها روايتُه وصلت وقرأناها، وأرادت أجنحةٌ فيها أن تطير إلى حيثُ أراد الشهيدُ الغزّيّ لفلسطين وللعرب أفقا آخر. حلمُه الأكبر، كما كتب، أن "تُشرق ضحكاتُ الأطفال قبل الشمس، أن نزرع وردةً في كل مكانٍ سقطت فيه قنبلة، ونرسم حرّيتنا على كل جدار تهدّم، أن تترُكنا الحربُ وشأننا".
ستُغادر الحرب غزّة، لكن نور الدين لن يراها وهي تُغادر، فقد طارَ بأجنحتِه إلينا، إلى ضلوعنا، لمّا قتلَه القاتل الغازي ... إذن، يا لأسىً مالحٍ فينا.