09 نوفمبر 2024
أبو خليل القباني في شيكاغو
تُنسب ألحان الأغنية الشعبية الشامية "يا طيرة طيري يا حمامة" إلى الرائد المؤسس في المسرح العربي، أبو خليل القباني (1842 ـ 1903)، أما كلماتُها فتردّها مصادر ذائعة إلى الفلكلور (إلى لا أحد)، ولكن الباحث الموسيقي السوري البارع (والوزير الأسبق)، سعدالله آغا القلعة، ذكر أن القباني هو من كتب الأغنية أيضا، على متن سفينةٍ كان عائدا فيها من شيكاغو. أما الباحث، تيسير خلف، فلا يستبعد أن تكون طيرة في الأغنية هي الممثلة إستيرا حنائيل الحكيم التي أخذت اسمها ذاك لتأديتها رقصةً دمشقيةً على أنغام أغنيةٍ اسمها طيرة، وكانت في فرقة القباني في عروض شيكاغو. يورد تيسير هذا التفصيل في كتابه ملتبس التصنيف، "من دمشق إلى شيكاغو.. رحلة أبي خليل القباني إلى أميركا 1893"، (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، دار السويدي، 2018)، ذلك أن الرحلة لم يكتبها صاحبُها، بل يشكّك كثيرون في أن الشيخ الدمشقي العتيد قام بها أصلا، أحدهم السفير صباح قباني (أبو خليل عم جدّه لأبيه ووالد جدّته لأمه)، فجاء على غلاف الكتاب أن الرحلة "صنعها وقدّم لها" تيسير خلف، والذي بذل جهدا بحثيا وتوثيقيا وتأريخيا شديد الاستقصائية، وخصوصا في صحفٍ أميركيةٍ كتبت عن عروضٍ تمثيليةٍ ومسرحيةٍ في معرض شيكاغو أنجزها أبو خليل القباني.
عدا عن تشكيك باحثين ومؤرخي فنون في الرحلة أساسا (نفاها أحدهم تماما في أطروحة ماجستير)، فإن آخرين أوردوا عنها نتفا، يراها تيسير خلف مشوّشةً وغير دقيقة، فقد استقرّ أن القباني دُعي، هو وممثلون معه، إلى معرض شيكاغو، بينما كان في القاهرة، وأنه ارتحل منها إلى هناك. وهذا ما شوهد في المسلسل التلفزيوني عنه (إخراج إيناس حقي، رمضان 2010)، استنادا إلى كتابٍ للمؤرخ الفني، أدهم الجندي، صدر في 1958. ينسف تيسير هذه الرواية، ويبني مسار تلك الرحلة، ويتقصّى تفاصيل تفاصيلها، اعتمادا، في كثيرٍ من جهده هذا، على أرشيفاتٍ من وزارة الخارجية الأميركية ومكتبة الكونغرس ومن صحف أميركية، ومن وثائق عثمانية، ليقدم روايةً أخرى، على قدرٍ مهمٍّ من الموثوقية. وأن يُحرز الكتاب، تقديرا لهذا المجهود البحثي المضني، في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، جائزة ابن بطوطة من مشروع "ارتياد الآفاق" في المركز العربي للأدب الجغرافي، فذلك في محلّه، غير أن في نيْله الجائزة في فئة تحقيق المخطوطات مفارقةً مربكةً، فليس الكتاب مخطوطا تم تحقيقه، غير أن صفة "التحقيق" الظاهرة في صنيع تيسير خلف ربما تسوّغ أن تكون فئته "النصوص الرحلية المحققة".
لم يكن أبو خليل القباني في القاهرة في 1893، فلا يستقيم القول إنه دُعي فيها لزيارة أميركا. كان في بيروت، وكانت الدعوة من الرئيس الأميركي، بنيامين هاريسون، إلى السلطنة العثمانية، للمشاركة في معرض شيكاغو، فتعاقد "الباب العالي" مع شركةٍ خاصة، لتبني "الجناح العثماني" في المعرض، تكون فيه "أبنيةٌ للمسارح"، تقدّم فيها عروضٌ مشروطةُ بأن لا تتضمن "أي شيء يخلّ بذوات الخدور المسلمات والآداب الملية والعمومية وشرف وآداب المملكة". وحصلت شركةٌ أخرى على امتياز تشخيص "العادات الشرقية" في "القرية التركية" في المعرض، وهي شركةٌ كانت تتبع لها فرقة "مرسح العادات الشرقية" (ليس خطأ مطبعيا)، وهي الفرقة التي أوردت صحيفة كوكب أميركا أن أبو خليل القباني "الممثل الشهير والمطرب المُعجب" كان مدير ممثليها في "شركة العوائد الشرقية". وقدّمت الفرقة في شيكاغو عدة مسرحياتٍ وتمثيلياتٍ، منها "عنترة بن شداد" و"الدراما القلمونية"، شهورا، وفجأة بعد نحو شهرين، تنشر "كوكب أميركا" التي زارها القباني في نيويورك خبرا عن مغادرة "حضرة الفاضل الشيخ أبو خليل القباني، المشهور بفن التمثيل، ..."، متوجها إلى باريس ولندن، قبل أن يعود إلى الوطن.
تفاصيلُ كثيرة أخرى، مثيرةٌ وشائقةٌ، كاشفةٌ بشأن التواصل الثقافي بين العرب وأميركا، يوفرها كتاب تيسير خلف الذي كان قد أصدر عدة كتب في التحقيق التاريخي، وعدة روايات، وكتابه المرجعي "تاريخ الجولان المفصّل" (مركز حرمون للدراسات المعاصرة، 540 صفحة، 2017)، وإلى روايةٍ قيد الصدور، يُرتقب جديدٌ آخر له عن أبو خليل القباني أيضا.