أبو الأعلى المودودي وإريك زيمور
يتوخَّى عنوان المقالة الإشارة إلى تشابه الفكر المتطرِّف، بغض النظر عن المسافات الزمنية والسياقات السياسية والتاريخية، المتصلة بمن تشير إليهما، وكذا صور التقابل والتضاد القائمة أو الممكنة بينهما، حيث ينتمي أبو الأعلى المودودي (1903 - 1979) إلى الأقلية المسلمة التي شاركت، سنة 1947، في الدعوة إلى استقلال باكستان عن الهند، وقد اشتهر بوصفه مؤسسا سنة 1941 لما تعرف بالجماعة الإسلامية في بلاد الهند. كما تُرجِمت أعماله إلى اللغة العربية، وأشهرها "نحن والحضارة الغربية". أما أريك زيمور الصحافي الفرنسي (62 سنة)، فقد صدرت له مجموعة من المؤلفات أبرزها، "الاكتئاب الفرنسي" 2010، "المصير الفرنسي" 2014، "الانتحار الفرنسي" 2014، و"لم تقل فرنسا بعد كلمتها الأخيرة" 2021. وقد أثار أخيرا ضجّة إعلامية كبيرة بمناسبة انخراطه في السجالات السياسية، الممهدة للانتخابات الرئاسية الفرنسية المرتقبة في شهر إبريل/ نيسان 2022. .. لكن لماذا نستحضر اسمه بجوار اسم أحد شيوخ الجماعة الإسلامية في الهند، وباعتباره أيضاً أحد رموز السلفية الجديدة في العالم الإسلامي؟
لا نستطيع الادعاء بأن إريك زيمور يعرف الجماعة الإسلامية في الهند، رغم معرفته ببعض التنظيمات الجهادية وتنظيمات الإسلام السياسي، بحكم عمله الصحافي، إلا أن الاطِّلاع على بعض أعمال ومواقف كل منهما يظهر لنا التشابه القائم بين الروح الناظمة لمواقف كل منهما، في السياسة وفي التاريخ وفي تاريخ الصراع بين أوروبا ومستعمراتها في أفريقيا وآسيا. ما يجمعهما منظومة الفكر المتطرّف الذي ساهم ويساهم كل منهما في نشره. ففي كتابه "نحن والحضارة الغربية"، يؤسس المودودي للتقابل الصراعي الحادّ بين الإسلام والغرب، التقابل القائم على رفض كل منهما الآخر، في سياق رفضه التفرنج والهيمنة الغربية، حيث يشير إلى العِلَل والأمراض المرتبطة بعلوم الغرب وتقنياته، ويعتبر أن الكشوف الطبية، مثل الإجهاض وتحديد النسل، ستؤدّي إلى انتحاره ونهايته، وذلك بِتناقصِ ذريته وعدده. ومقابل ذلك، يدعو المسلمين إلى مزيد من التوالد والتناسل لملء الفضاءات والأمكنة وتعمير الأرض، فالمستقبل للإسلام والمسلمين.. ولا يتردّد الصحافي الفرنسي في الدعوة إلى سَنّ قوانين توقف مسلسل الهجرة، لكي لا يعرف المجتمع الفرنسي وتعرف أوروبا ما يسميه التحول الكبير.
يؤسس المودودي للتقابل الصراعي الحادّ بين الإسلام والغرب، التقابل القائم على رفض كل منهما الآخر، في سياق رفضه التفرنج والهيمنة الغربية
انخرط زيمور في عمليات التمهيد لرئاسيات 2022 في فرنسا، وذلك بتقديم كتابه الجديد "لم تقل فرنسا بعد كلمتها الأخيرة"، وتحوّل إلى آلة إعلامية متحرّكة، على الرغم من أن خياراته السياسية تعتمد المواقف المعروفة منذ عقود داخل دوائر اليمين الفرنسي المتطرّف (الجبهة الوطنية). يُخيف الفرنسيين من مهاجري أقطار المغرب العربي من الإسلام والمسلمين، ويوضح مواقفه الرافضة خيارات الاتحاد الأوروبي. يتحدّث في كتابه "الانتحار الفرنسي" عن الانهيار الحاصل اليوم في فرنسا أمام تصاعد المد الإسلامي، ويطالب في استجواب له أنجز بمناسبة كتابه المذكور، بترحيل خمسة ملايين مسلم من فرنسا!
لا يتردد زيمور في إعلان مواقفه العنصرية من المسلمين والأفارقة، ولا يتردّد في رفض المكاسب الثقافية والاجتماعية، التي تحققت خلال عقود النصف الثاني من القرن الماضي، ويعلن أن المد الإسلامي المتصاعد ديمغرافياً في فرنسا أصاب الفرنسيين بالاكتئاب، وسيؤدّي قريباً إلى الأفول الفرنسي. إنه يكرّر خَطابياً محتوى رواية خضوع للكاتب والروائي ميشيل ويلبيك الذي تخيَّل أن فرنسا سيترأسها مسلم سنة 2022، حيث سيعمل على نشر شرائع الإسلام في فرنسا!
تلتقي هذه المواقف بكثير من التصورات المتداولة في بعض التنظيمات والأحزاب السياسية اليمينية في أوروبا، وهي تساهم في تعزيز خطاب الكراهية ضد الإسلام وضد الهجرة والمهاجرين. وقد فرض إريك زيمور، وهو ينخرط في النقاش السياسي العام المرتبط بالرئاسيات الفرنسية، موضوع الهجرة والمهاجرين. يتحدّث عن الأفول الفرنسي القريب، حيث لم يستطع المهاجرون من بلدان المغرب تمثل الثقافة الأوروبية والاندماج في مجتمعاتها. ويتصوَّر أن انتشار المساجد في المدن الفرنسية وبروز ردود الفعل الإرهابية في عديد منها يؤشّران على ما يمكن النظر إليه باعتباره من علامات أسلمة المجتمع الفرنسي والأوروبي.
لا يتردد زيمور في إعلان مواقفه العنصرية من المسلمين والأفارقة
يفكّر إريك زيمور بمنطق النقاء العرقي والوطنية العنصرية، يستعيد بعض المواقف النازية، يردّد الدعاوى الإسرائيلية في فلسطين المحتلة، ويدعو إلى طرد الأجانب وإغلاق الحدود بعد أن فُتِحَت أرضاً وسماءً وفضاءات افتراضية. ويشير إلى ما يسمّيه تأنيث المجتمع حيث تقلَّصت درجات الفحولة وانتشرت عادات الأنوثة في المجتمع، الأمر الذي يُبرز نظرته الدونية للمرأة. وتتميز خطاباته بكثير من الاندفاع والادّعاء والعدوانية، على الرغم من أن خطاباته الصحافية ومواقفه السياسية لا تخرج في روحها العامة عن مناهضته المتواصلة لقيم التاريخ والتقدم، قيم الديمقراطية والتعدُّد.. ولا تتجاوز، في نهاية التحليل، الدعاوى التي نادى بها اليمين المتطرّف في فرنسا منذ عقود.
يستمد الصحافي المحافظ مرجعيته في النظر إلى واقع فرنسا وتاريخها من مُنظِّري اليمين الفرنسي، من مؤرّخي نهاية القرن الثامن عشر، موريس باراس وشارل موراس وجاك باﻧﭬﻳﻝ، ففي أعمال هؤلاء المؤرّخين عثر على عديدٍ من المفردات التي استخدم في كتابه الأخير، من قَبِيل فرنسا الخالدة، فرنسا البيضاء الكاثوليكية. وفي أعمالهم وجد مفهوم الوطنية التامة، الذي يرادفه في كتاباته بمبدأ الاستيعاب الكلي للثقافة والتاريخ الفرنسي. كما عثر على مبدأ التمثل الكلي باعتباره الطريق المؤدّي إلى الاندماج التام للمهاجرين، الطريق القادر على التخلص من الترسبات الذهنية والسلوكية العميقة، الحاضرة في ثقافتهم وسلوكهم، متصوّراً أن الاندماج الكلي يسمح بتشكيل رقابةٍ ذاتية تُخلِّصهم من كل الرموز التي تملأ لغتهم وأسماءهم وعاداتهم. ومن هنا، دعوته إلى ضرورة إعلان حرب الديانات، ومطالبته بتغيير الأسماء الشخصية ذات الشحنة الدلالية المرتبطة بثقافة الإسلام وتاريخه.
يتحدّث كل منهما بقطعيةٍ مطلقة، من دون أن يلتفت إلى تحولات التاريخ والثقافة في عالم سائل ومتحوِّل باستمرار، يمتلكان تصوّراً واحداً للتاريخ والهوية، ولا يلتفت أيٌّ منهما إلى أفعال المثاقفة والشروخ التي رسمتها وتواصل رسمها في التاريخ، كما أنهما لا يعيران أدنى اهتمام لمكاسب الحداثة والتنوّع في الفكر وفي التاريخ. يتغنَّى كل منهما بنقاء أصوله وعقيدته، ويرتِّب كل منهما أحلامه في عالمٍ أكثر تعقيداً من كل ما انتظم في تصوُّراتهما من أفكار ومخطَّطات.